تخطى إلى المحتوى

طريق الحقّ بين “سنّة التدافع” ودفع السُّنَن

  • بواسطة

أسماء حازُرْلي


من الناس من تجده مسالما موادعا في كل حين وفي كل حال، إلى الحدّ الذي يهرب فيه من كل مواجهة، بدعوى الحياديّة، وأنه الذي لا يحبّ أن يخسر أحدا، وأنه الذي لا يحبّ خوض الحروب. فبنظره المسالمة والموادعة سبيل للتعايش مع كل أصناف الناس، وللتكيّف مع كل الأحوال والمواقف والمقامات.

التعايش عنده حلٌّ حمائميّ يجعله كالطائر المرفرف بجناحَيه خِفّةً وطربا وهناءة في جوّ الدنيا، هو عنده شمسٌ مشرقة أبدا تُذيب كل جليد، وتُسيح كل صقيع.

التعايش عنده خارقة بين الخوارق، خارقة في الفعل وخارقة في الأثر، يخلق جوّ السلام الذي لا ينقطع، ويحقق الراحة من كل شاغل يشغل الفكر؛ فكلّ الناس وكل أفعالهم وكلّ مواقفهم، وكلّ ما يصدر منهم مقبول، سواء في ذلك من أحسن منهم ومن أساء.

حتى الطبيعة التي عملُها في الكون وِفق نواميس وموازين، حفاظا على التوازن الضامن لاستمرارية الحياة على الأرض، متقلّبة، تتخذ لها أحوالا وصورا من حركة المتناقضات فيها؛ فالشمس على علوّ كعبها ليست التي تدوم أبدا، والنهار على قوة بيانه ورباطة ضوئه ليس بالذي يمنع سُدول الليل أن تُرخى، ولا بالذي يصدّ السواد عن وجه السماء. ولكن، فيما سدوله مُرخاة وسواده غاشٍ، تحثّ الشمس خطاها لتعود من جديد فينفجر بها الصباح، والليل في ساعات ضيائها يحثّ هو الآخر خطاه ليعود من جديد، فهذا يطلب هذا: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف من الآية 54].

فلا تقبل الطبيعة دوام حال واحدة، بل إنه “التدافــــــــع“، سنة من سنن الخلق، وسنن الكون، وسنن الحياة. سنّة تقضي بوجود المتناقضات، ولكنها تقضي -بالمقابل- بتدافعها لا باجتماعها.

أما هذا الذي يريد سلاما أبديّا لا يسمع فيه للحرب رِكزا، ولا ينطق فيه بكلمة المدافعة والمواجهة “لا“، في وجه باطل أو ظلم، في وجه مبطل أو ظالم، فذاك لا تأخذْ له من الطبيعة ولا تُسقط على فِكره منها، فإن فكره أبعد ما يكون عن ميزان الطبيعة وعن سُننها.

بل خُذْ له من السياسة وأدعياء السلام والتعايش لدفع الحروب، لدفع “التدافع“، لإلغاء سنّة التدافع حتى وإن أُكِلت كلّ الحقوق، حتى وإن أهدِرت آخر قطرة من ماء الوجه، حتى وإن أصبح الرأس مداسا، حتى وإن أعلِي الظالم ودُحِر المظلوم.

إنها سياسة “قانون الأقوى”، “قانون الأغنى” لا سياسة “قانون الحقّ”.

أسقِط على واقع حياة الفرد من سياسة “قانون الأقوى” لا “قانون الحق”، فإن حياة الواحد من الناس تُساس، وهو سائسها، فإما سياسة هدى رباني أعلى وإما سياسة سياسة.

إنّ “السائس” المؤمن محتكم في نفسه وفيمَن حوله لقانون إلهيّ أعلى، بقِـيَمٍ عُليا مطلقة لا تقبل المساومة ولا المداهنة، ولا تقبل أنصاف الرؤى ولا أنصاف الحلول ولا أنصاف الأحكام، قِيم هي الغلاف الحافظ والغشاء الحامي للخلق والوجود القائم على الحقّ، المتلبّس بالحق تلبّسا: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ۖ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) ﴾ [الحِجر]. وأنزِل للبشر كتاب هو الحقّ المطلق، ليُحقّ الحقّ في الأرض ويبطل الباطل، وِفق قواعد قِيَميّة عُليا هي من الخالق سبحانه لخلقه : ﴿ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) ﴾ [الإسراء]. أنزله وفيه الحسم والفصل، لا التذبذب والتراوح : ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) ﴾ [النساء]. كما أنّ إرساله صلى الله عليه وسلم متلبّس بالحق: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) ﴾ [البقرة]. وجود بالحقّ وللحـــــق أقيم .

وإنّ ما يسميه هذا المسالم المتعايش، “ذكاء اجتماعيا” و “تعايشا” لَمِمّا تصوّره له أحوالٌ قد تكون في نفسه مجتمعة، أو يكون فيها واحد منها أو أكثر، يصوّره له جُبنٌ فيه أو خَور، أو ضعف في الشخصية، أو تذبذب في الهويّة، أو شحّ في الذخيرة القِيَمِيّة، أو تماهٍ مع القوانين الخَلْطِيّة التي يتساوى فيها حق بباطل، مع الأهواء المطوّحة يُمنة ويُسرة، فهي التسوية بين ظلم وعدل، بين قيمة وهباءة، في زمن أصبح يُكرَّس فيه لــ”نسبية الحقّ” ولكون الأخلاق آراء وميولا لا قيم مطلقة في ذاتها.

لم تعد الأخلاق والقيم عند أهل التعايش وقبول الآخر-كلّ الآخر وكل بنات فكر الآخر- تُعدّ ذات معاني مطلقة تقضي بحُسنٍ في حسنها وبسوء في ضدّها، بل كلٌّ وما يَرى، وأن يُقبَل كلُّ ما يُرى، “الأخلاق” عند عَبَدة المادة مادّة، هي عندهم تفاعلات كيميائية –كما يقرّر الملاحدة- نتاج تشابكٍ للخلايا العصبية يُخرجها في شكل عاطفة أو ردّ فعل إزاء فعل أو سلوك أو موقف ما، يروق للناس أن يسموه “أخلاق”.

و”المتعايش” المتفهّم المتحضّر، المتناغم مع قوانين العصر عليه أن يقبل الكلّ، وأن يقبل كلام الكلّ، وفعل الكلّ مجتمعا، عليه أن يسالم وألا يحارب، لا يعترف بسنّة “التّدافع” التي هي سنّة الوجود القائم بالحق وعلى الحق؛ التدافع الذي هو الصراع واجب القيام بين أهل الحق وأهل الباطل لإظهار الحق وإزهاق الباطل : ﴿ … وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: من الآية 251]

بين “السائس البذرة” و “السياسيّ الثمرة”

إنّ “سائس” نفسه وِفق قوانين(أخلاط) العصر هو بذرة “السياسيّ” الذي يسوس البلاد والعباد وِفق قوانين(أخلاط) العصر، على أنّ قبولها كلّها (بالنسبة للسائس البذرة) هو الطريقة المثلى لكسب كل الناس، وللفوز بحبّ كلّ الناس، وللعيش بسلام مع كل الناس، بينما الحقيقة أنها السلبية واللّارأي واللّادور، و اللّاتأثير.

الحقيقة أنه التكريس للمداهنة على المستويات المجتمعيّة، بدءا بأن تُخلَعَ عليها تسميات وعناوين ناعمة رقيقة محبّبة، هي من جنس “من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر”، “من هاجمك برصاصة أو مدفع فردّ عليه بوردة “.

السلام، التعايش، قبول الآخر، هي الوَرد والنَّوَر في أغصان شوكيّة حرّاقة، هي التكريس للباطل بالكلمات الجميلة البراقة.

الدنيا ساعة وساعة، والمواقف حال وحال، وكثير منها يستدعي الفصل والمواجهة والقرار الحاسم بـ : “لا” والمواجهة الجريئة بـ : “لا“… لأن التموّج والتذبذب والهروب من المواجهات والخوف من اتخاذ القرارات “إمّعيّة“، وتلوّن بلون الناس لا بلون القرار المناسب، القرار الفاصل بين الخضوع لموازين الأخلاط، والخضوع لموازين الحق .

التترّس من المواجهة بالهروب، وبدعاوى المسالمة والمسايرة، مداهنةٌ ورماديّة لا تعطي للمؤمن صبغة الحق، بل تعطيه صبغة “النفاق”، لا تعطيه صفة الأهليّة لمواجهة ابتلاءات الدنيا(بخيرها وشرّها) وِفق الهدى الذي هُدِيَه، بل تجعله كالقشّة في مهبّها، يتساوى عنده حق وباطل، صواب وخطأ، عدل وجَوْر.

الهروب من المواجهات أو المسايرة حتى يُقضى المأرب والمآرب، والحرص على عدم خسارة البَرّ والفاجر سواء بسواء، بدعوى “أرِح رأسك” وبدعوى “الذكاء الاجتماعي” يكرّس للمداهنة، لا شيء غير المداهنة، إلا أنّ للعصر لغته المكيِّفة الهوائية، ومصطلحاته المكيّفة، تلك التي تقلب “المداهنة” سلاما وتعايشا، وقبولا للآخر.. حتى وإن كان هذا الآخر عدوّي، المترصّد لهويّتي، لجذوري، لديني.

حتى وإن كانت معايير رضى هذا الآخر هي اتباع ملّته، لا بأس، لا ضير، ما الذي يمنع أن يدخل الدين ضمن قائمة المُكَيَّفات : ﴿ وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ…﴾ [البقرة: من الآية120].

وعلى هذا ينتقل داء السائس البذرة إلى الساق، إلى الأغصان، إلى أعلى، إلى “السياسيّ الثمرة“، ذاك الذي يُداهن، ويتملّق و يطبّع وهو يُمنَح جوائز “السلام” العالميّة، وجوائز “التعايش” الكونيّة.

“لا تطع” مفتاح سنّة التدافع.

﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9) ﴾[القلم].

إنه خطاب ربانيّ للذي شهد له ربّه بالخُلق العظيم ﷺ في آية سابقة من السورة ذاتها : ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾[القلم].

إلا أن الخلق العظيم ليس مدعاة لطأطأة الرأس وقبول المساومات في الحق؛ صاحب الخلق العظيم أمِر ألا يطيع المكذّبين الذين يعرضون عليه سُبُلا وسطا وحلولا وسطا، سُبلا للسلام والمسالمة بزعمهم، فالخُلُق لا يساوي الطأطأة والذلّ والتسليم لكلّ حال ولكلّ ذي مقال؛ لا يساوي المداهنة على حساب الحقّ.

والمداهنة لغةً هي الملاينة والمُداراة، وأصلها من “الدّهن” وهو طلاء الجلد بما يليّنه ويرطّبه؛ وإنّ أهل الباطل يودّون لو يُدهِن أهل الحق؛ لو يليّنون ويرطّبون ليقبلوا باطلهم؛ فأما “وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ” فأن يقبل ﷺ بالإبقاء على ما يحبون الإبقاء عليه من أصنامهم ومعتقداتهم، وأما “فَيُدْهِنُونَ” فأن يُظهروا له –كذباً-استعدادهم لأن يُسيّدوه عليهم، وأن يملك فيهم ما يحبّ أن يملك، بمعنى أن يترك هو ﷺ شيئا من الحق الذي جاء به، ويُترك لهم بالمقابل شيء من باطلهم، فيمضي في سيرتهم ويكون على شاكلتهم، ويتحقق “التعايش”، وتذهب ريح “التّدافع”.

ولكنها دعوة الحق التي لا تقبل المُداهنة، ولا تقبل أنصاف الحلول، وطريقها ليست نصف طريق، والمداهنات بأنواعها أنصاف حلول، وطرُقها أنصاف طُرق، أما مبلغها فليس “نصف حق”، ولا “نصف باطل” بل باطل محض، دعوة الحق لا ترضى بهَدْم شيء من الباطل والإبقاء على شيء. بل تدفع الباطل بـ “لا تُطِع“، لا تُطع مداهناتهم ولا ما يريدون منك من إدهان؛ ولقد ذمّ الله مَن فعل ذلك من اليهود في قوله سبحانه: ﴿…أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[البقرة: من الآية 85].

ويستمرّ الخطاب الربانيّ لرسول الله ﷺ وهو يحذّره أعداءَهُ وأعداء دعوة الحق من بعد بيان حقيقة ما يحبّ الكافرون منه: ﴿ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ(16)

أوصاف ذميمة كلّها اجتمعت في هذا الذي تعوّد أن يُطاع ممّن حوله على قباحة خُلقه، وفساد طبعه، وسوء طويّته . وما كان مطاعا رغم كل هذه القباحة التي تغشى نفسه إلا من : “أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)

من كثرة ماله أعلى الناسُ شأنه؛ وذلك ليس بِدْعا من نظرة الناس، يتملّقون أمثاله ويتزلّفون إليهم، لا حُبّاً فيهم بل فيما عندهم، لعلّهم يجودون عليهم بفُتاتٍ من أموالهم لقاء خدمتهم وتحقيق ما يريدون من شرورهم وإفسادهم، وظلمهم وجَبروتهم، كل أوامرهم تُطاع ممّن لا يعترفون بمكانة للأخلاق، بل الحياة مادة، الأخلاق عندهم ذاوية ذُوِيَّ النبتة الظمأى لماء يُحييها، وما ماؤها إلا دستور الخالق الذي يُحيي مَوات القلوب.

تغمّي أمواله وعِزوتُه بأولاده على كلّ سوء وقبح في نفسه، فلا يرون فيه إلا المادة، لا شيء غير المادة، ويطيعونه وهو الذي يصف الحقّ بــ:” أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ“؛ فالمطيعون المتملقّون المتزلّفون، والمَهين الأثيم، وما وصف به الحقّ من رب العالمين، صُور ونُسَخ تُعاد في كل زمان، تُعلي أخلاط الأهواء على قانون ربّ البشر للبشر.

وهكذا هي “المداهنة”، هكذا هي المساومة على حساب الحق، على حساب الأخلاق، على حساب القِيم؛ هكذا هو منطق “التعايش” المزعوم والسلام المزعوم، ومنطق إلغاء سنّة “التدافع”، هكذا هي ثمرة السائس نفسَه وِفق قانون(أخلاط) المادة، ثمرته مداهنون مطبّعون على مستوى أعلى، على مستوى نبات يخرج نكدا، في ساسة وسياسةِ البلاد والعباد، يبيعون دينهم لقاء الفُتات، والعنوان سلام وتعايش.

أما “لا تُطِع” فهي مفتاح سنّة التدافع، وهي إعلان رفض المساومات والسلام المزعوم والتعايش الموهوم، تعايش وسلام لا يقوم بين أهل الحق وأهل الباطل، لا يقوم بين أهل الخُلُق والقِيم المنبثقة عن دستور الحق المطلق، الدستور الإلهي للبشر، وأهل نسبية الحقّ ونسبية القِيم، أهل المادة والاحتكام للأهواء المتقلبة التي يُتنادَى لتُقبَل كلّها أخلاطا.

(ولاتُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ﴾ [الكهف: من الآية28]

﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيراً﴾ [الفرقان:52]

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيماً﴾ [الأحزاب:01]

﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَو كَفُوراً﴾ [الإنسان:24].

الإمّعيّة عقبة تقطع طريق الوصول إلى الحق

المداهنة، الإمّعية، الحِياد، كلّها عقبات على طريق الحق؛ سورة القلم تحمل في ثناياها عوامل قيام الحق وظهوره، وتُعرّف بالعقبات الحائلة دون قيامه وظهوره؛ جاء فيها بيان عدم جواز المداهنة على حسابه، وأنّ الفصل والحسم واجب في قضيته، وأن من يُطاع لقوّته وماله على قباحة صفاته وشناعة أفعاله ليس للمؤمن أن يطيعه، بل أن يواجهه، أن يحقق سنّة “التدافع” حتى لا تفسد الأرض، وحتى يستحقّ المؤمن فضل الله: ﴿ …وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: من الآية 251].

وقد جاء ذلك في قصة أصحاب الجنة، الإخوة الذين اجتمعوا على تنفيذ خطة قطع ثمار جنّتهم سرّا من الناس للاستئثار بها، وحتى لا يأخذ منها المساكين شيئا كانوا يأخذونه في حياة أبيهم الذي كان رجلا صالحا، فانطلقوا عازمين على فعلهم، وهم لا يعلمون أنّ طائفا من أمر الله قد طاف على جنّتهم وهم نائمون، فأصبحت كالصريم(قطعة ليل مظلمة)، لا شيء فيها مما كان فيها، فما أن وصلوا حتى وجدوها وهم لها منكرون من فرط ما آل إليه حالها: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) ﴾ هذا أحسنُهم طريقا، يذكّرهم بمقالة له حينما اجتمعوا ليصرِموا الجنّة: هلاّ ذكرتم الله فانتبهتم لظلمكم؟.

ولكــــــــــــــــن، إنه لم يعتزِلْهم، لم يصرّ على موقفه، ولم يصرّ على الحق وعلى ألا يخوض معهم فيما خاضوا، لقد صحِبهم مُصبحين، ولقد همّ بما همّوا، عرف الحق ودعا إليه، ولكنّه لم يثبت حتى النهاية، إنّ “أوسطهم” هذا صاحب الحلول الوسط، لم يُكمل دربه بل صرمها هي الأخرى، وحرم نفسَه الثبات والأجر الأوفى بالثبات، وَعَظَهم ونهاهم ولكنّه لم يعتزلهم في فعلتهم، قال كلمة الحق، ولكنّه سار معهم على درب الباطل.

إنها “الإمّعية“، إنها وجه من أوجه المداهنة في الحق، فهي التذبذب وانعدام الحسم، وهي السبيل إلى الاستسلام للباطل وطريقه وأهله، السبيل إلى إحقاق الباطل وإبطال الحق.

فالحق لا يقوم بمداهنة ولا بإمعيّة يخوض صاحبُها مع الخائضين، لا يقوم بمجرّد القول والوعظ، بل بالفعل المصدّق، بـ : “لا تُطِـــعْ” مجسّدة في دفع مراد أهل الباطل باعتزال فعلهم وإن كانوا أهل دم ورحِم وقُربى وجلدة، لا بالمشاركة فيه، إنها الطريق المصرومة(نصف طريق)، وإنه نصف حل، وهو ما لا يقبله الحق، ولا يتحقق به. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: {لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا فلا تظلِموا } –سنن الترمذي-.

سنّة “التدافع” إحقاق للحق بطريق وصول كامل

إنّ القوة في الحق لا تشترط نفوذا ولا مالا ولا سلطانا، بل تحتاج أوّل ما تحتاج أنفسا قوية في الحق، لا تُداهن ولا تكون معاييرها معايير القطيع الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فهو إذا رأى مَنْ مَالَ مَالَ معه حيث مال. القوّة في الحق لا تكون مع إمّعيّة، بل تحتاج نفسا تصّر على الحق، نفسا موشّحة بالأخلاق، تصونها وتحفظها، وتجعلها حركتها على الأرض وإن داهنَ الجميع، وإن أطاع الجميع طاعة بلا بصيرة.

وإنّ على كلّ من يريد أن تكون له يد في الحق وفي إظهاره، أن تكون له يد في نصرة الدين، أن يتشرّب هذه الحقيقة وأن يتفهّم هذه القاعدة، أنه حيثما كان وبأيّ مقام كان إنما هو المُمتحَن المُبتلى، أيداهن في الحق ويساير أهل الباطل ويسترضيهم، أم يصرّ على الحق فعلا وتطبيقا لا كلاما وخطابة حماسيّة مجرّدة عن أيّ فعل ؟.

المُداهنة والإمّعيّة والمُسايرة خطورة وطرق إلى الباطل، طرق إلى الضّلال من حيث يُظَنُّ أن أمرها هيّن، كحال “أوسطهم” الذي عرف الحق ونطق به، ولكنه عند الفعل كان ضعيفا، فساير ومضى معهم حيث مضوا، وأقرّهم على فعلهم بالفعل معهم من بعد ما أنكره بالكلام، وليس أيسر من الكلام، بينما الفصل في الفعل.

الحقّ يحتاج حسما وبيانا وقوة وفعلا، والتدافع سنّة تُحِقّه، لا تَساوي فيها بين ظلمة ونور، لا يجتمع فيها ليل ونهار، لا تذبذب فيها ولا تموّج، لا ضبابية ولا رماديّة، بل طاعة لأمر خالق حكيم عليم، ومعصية (لا تُطِع) أمر مكذبين بأمره، مُعلين للأهواء والأخلاط على أنها قانون المسالمات واللاحرب.

ولنبحث في أنفسنا، لربّما كان “أوْسَطُهم” فينا ونحن نحسب أننا نُحسن صنعا، نحسبه هيّنا يسيرا، نحسب أنّ ذلك ما علينا لنعايش ونتعايش وليقبلنا الناس.

إن التربية القرآنية هي العدسة المكبّرة الكاشفة لدواخلك، لعِللك، لما تحاول أن تُخفي، وتستر، ولما تحاول أن تُداهن مع نفسك قبل غيرك، إنها ليست قصة أصحاب الجنة وحدهم بل هي قصصـــــــنا.

ذلك الأوسط بينهم، ليس شرطا أن تكون لك جنّة كجنّته، ولا إخوة كإخوته، بل لكلّ منا شيؤُه، ولكل منا مُحيطه ومضمار امتحانه وابتلائه في تعاملاته مع المحيطين به، ثم قِسْ أنت عليها مواقفك من الحق، قِسْ قولك ومسلكك للطريق، أتُراك تقطعه كاملا إلى مُنتهاه، أم أنك الذي يقف في منتصفه ويحسب أنه ماضٍ، أتُراك الذي يقنع بنصف الحل، ثم يُعلّل لنفسه أنه لا ضرر من ذلك ولا ضِرار، وأنّ “الذكاء الاجتماعيّ” يقتضي ذلك، لأنه ما من مكان في دنيانا للأغبياء، وكم صرنا نُعايش من المُداهَنات والمُسايَرات والتنازلات، وكلُّها عندنا في تصنيف “العادي”، حتى اختلط حابل بنابل، ولم نعد نَمِيزُ خبيثا من طيّب، ولا حلالا من حرام، ولا حقا من باطل.

وإنّ من سورة القلم ذاتها يأتيك التقرير والحسم الإلهيّ : ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾[القلم].

إنما هي أسماء سميتموها ما أنزل الله بها من سلطان

أما عن تلك الكلمات البراقة الخدّاعة : “سلام”، “تعايش”، “إنسانية جامعة”، “حريّة”، وغيرها من الكلمات التي ظُلِمت فاتُخِذت ستارا دون حقائق الحرب على دستور الخالق سبحانه وعلى مُراده من عباده، وعلى الغاية من الوجود المتلبّس خلقه بالحق، الذي أقرّ له الله سنّة التدافع لإحقاقه ولإزهاق الباطل، فإنّ دستور ربّ البشر للبشر يبيّن حقيقة اتخاذها كلمات لا تغني عن الحقّ شيئا.

تأمل قوله تعالى في صدر سورة الأحزاب : ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ﴾ [الأحزاب].

أ) منهج إحقاق الحق وإبطال الباطل :

1- مفتاح التدافع : “وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ“.

2- الطريق الكامل والحل الكامل والوصول الكامل : “وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ

ب) كلمات هي الأوهام لا تغني عن الحق شيئا :

﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

السنّة والقاعدة أنه ما من إنسان يجتمع في جوفه قلبان، وإنما قلب واحد هو وعاء واحد لأحد حالَيْن إما كفر وإما إيمان، إما طاعة لإملاءات المُبعدين عن أمر الله بالمداهنة أو بالإمّعية أو حتى بالحياد باتخاذ المسميات الكذابة، وإما طاعة لأمر الله الخالق، واتباع للوحي الإلهيّ المنزَل بالحقّ المطلق.

فانظر إلى من جعل الزوجة أمّا وهو يظاهر منها:”أنتِ عليّ كظهر أمّي”، وكيف أنّ ما “قاله” من كلمات لن تغني عن الحقّ الذي لا يصيّر الزوجة أمّا بالكلمة، وانظر إلى من جعل الدعِيّ (المُتَبَنَّى)وَلَدَه، بينما لا تصيّر الكلمةُ الدعيّ ولدا.

الكلمات لا تغني عن الحق شيئا، المسميات والعناوين البراقة لا تغني عن الحقيقة والواقع شيئا، “التعايش” و “السلام” و “الإنسانية الجامعة” لا تغني شيئا، والحقيقة مداهنة وإمّعية وخضوع ومساومة، وتفريط بالحق وبالقِيم العُليا، لإحلال قانون الغاب والحيوان مكان قانون ربّ الإنسان للإنسان.

ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)

فانظر لنفسك يا “سائس” نفسك أتُراك تسوسها بقانون الحق، أم أنك تسوسها بقانون الباطل وأنت تحسب أنك تُحسن صنعا، انظر أتراك تؤمن بسنّة “التدافع”، فتحقّ حقا وتُبطل باطلا أم أنك الذي يجمع ما لا يُجمَع، ويقبل ما لا يُقبَل، محتكما للأخلاط والأهواء على أنها الطريق وما هي إلا المخاضة والمتاهة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *