تخطى إلى المحتوى

جيوشٌ بالإيجار: ماذا تعرف عن مرتزقة القرن الــ 21

16 سبتمبر 2007.
بغداد.
ساحة النسور

بينما الموكب العسكري “رايفين 23” يُغلق ساحة النسور ببغداد، حتى يمر الموكب الثاني الذي كان يحرس دبلوماسيًّا أمريكيّ، ينتبه عناصر “رايفين 23” إلى سيارة كيا بيضاء قادمة من الاتجاه المُعاكس، كان عناصر “رايفين 23” قد أُعلِموا من طرف الاستخبارات الأمريكية أن هناك مجموعة من السيارات المحملة بالقنابل المتفجرة تجول بغداد بحثًا عن أهدافٍ لحرقها، من بينها سيارة كيا بيضاء، تماما كالتي يرونها الآن قادمةً نحوهم.

تقدمت السيارة ببطءٍ، لكنها تجاهلت صافرة الشرطي العراقي الذي أشار إليها بإخلاء الطريق حتى تمر القافلة الثانية. نتيجةٌ لهذا، أطلق عناصر القافلة “رايفين 23” طلقاتٍ تحذيرية على المحرك ولكن السيارة لم تتوقف بل زادت من سرعتها، وبينما استدارت القافلة الثانية مُسرعةً لتُعيد الدبلوماسي الأمريكي إلى المنطقة الآمنة/الخضراء التي يُسيطر عليها الجيش الأمريكي، كان عناصر “رايفين 23” قد انصبوا بالطلقات النارية نحو سيارة الكيا، بالرشاشات وحتى قاذفات القنابل، بينما يبحثون، في نفس الوقت، عن غطاءٍ يحميهم من رصاص الشرطة العراقية التي فتحت النار عليهم.

كانت الساحة قد تحولت فجأة إلى ساحة حرب. فقد سبع عشرة مدنيٍّ حياتهم جرّاءها، وأُصيب عشرون آخرون. ادّعى عناصر “بلاك ووتر”، شركة الأمن العسكري الخاصة التي يعمل هؤلاء العناصر المقاتلون كـ”مقاولين” تحت لوائها، أنهم تعرّضوا لكمين فكان لِزامًا عليهم حماية أنفسهم. بينما ادعت الحكومة العراقية أن إطلاق النار لم يكن مُبرّرًا. وأكّد شهودٌ عيان رواية الحكومة العراقية.

كان في سيارة الكيا البيضاء اثنان، أُمٌّ وابنها الذي كان يقود، كان الابن طالب طب في الجامعة. اتضح بعدها، من بيان المدعي العام والنواب، أن السيارة زادت من سرعتها لأن أحد عناصر “بلاك ووتر” أطلق النار ببندقية قنصٍ على الابن فقتله، مما جعل قدمه تنزلق ثم تثبت على دواسة الوقود وترسل السيارة إلى الأمام بسرعةٍ هائلة.

وحتى إن كان عناصر “بلاك ووتر” قد ظنوا، في لحظة ما، أنهم يتعرضون لهجوم، فلا شيء يبرر عدد العُزَّل الذين قُتِلوا في تلك الساحة. وقد أكّد المدعون الفدراليون في وقتٍ لاحقٍ أن عناصر “بلاك ووتر” قد أطلقوا النار بعشوائيةٍ بأسلحةٍ آلية وبنادق آلية ثقيلة، بالإضافة إلى قاذفات قنابل.

أثارت هذه الحادثة ضجة عالمية، وعُرِفت بـ”مجزرة ساحة النسور”. وأشعلت غضبًا عارِمًا في الشارع العراقي أجبر السلطات العراقية على اتخاذ موقفٍ من الحادثة، فكان موقفها أن رفضت الإمضاء على معاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية تسمح لقوات هذه الأخيرة أن تبقى في البلاد إلى ما بعد 2011. وعلى الرغم من أن لـ “بلاك ووتر” عقدٌ بمبلغٍ ضخمٍ مع وزارة الدفاع الأمريكية يقضي بدعم الشركة للجيش الأمريكي في العراق مُقابل حُصول مُقاتِليها على حصانة ضد الملاحقات القضائية، فقد حُوكِم عناصرها المتهمون في الحادثة في المحاكم الأمريكية حيث ثبتت التهم على أربعةٍ منهم، وحُكِم على بالسجن لمدى الحياة، أما الثلاثة الآخرون فَبِثلاثين سنةٍ سجنًا.

الجدير بالذكر، أنه لم يكن للجيوش الخاصة تقريبًا أي ذكرٍ في وسائل الإعلام، إلا أنهم تصدروا المشهد الإعلامي بعد واقعة ساحة النسور. أشاد الجمهور بالقضاء الأمريكي، واعتبر أن ذلك الحكم مثّل نصرًا للديمقراطية وللعدالة الأمريكية، ونصرًا للشعب العراقي. ولكن يغفل كثيرٌ ممن صفّق لتلك المحاكمة الدرامية أنه قبل سنتين فقط من واقعة ساحة النسور، أي سنة 2005، ارتكبت فرقة من مشاة البحرية الأمريكية مجزرةً راح ضحيتها 24 عراقيٍّ بريء في عملية انتقامية. بدأت القصة عندما اصطدمت إحدى عربات “هامفي” الأمريكية بلغمٍ مُصَنَّعٍ يدويا، جُرح اثنان وقُتِل واحد. بعد الحادثة مباشرة أعدمت الفرقة خمسة عراقيين في الشارع، ثم اقتحمت البيوت بيتًا ببيتٍ وقتلت كل من فيها، تسع عشرة عراقيٍّ تتراوح أعمارهم ما بين الثلاث سنوات وستة وسبعين سنة، كثيرٌ منهم أُطلِق عليهم النار عدة مراتٍ من مسافة قريبة، بعضهم كان لا يزال مرتديًا ثياب نومه، أحدهم كان مُقعَدًا في كرسيٍّ متحرك.

حقق الجيش الأمريكي في الحادثة، ثم برّأ القضاء العسكري أفراد المارينز هؤلاء.

مثل عناصر “بلاك ووتر”، ارتكب جنود المارينز جرائم حرب. لكن بالنسبة لأفراد الجيش الأمريكي، يكون هناك تحقيقٌ داخليٌّ واحد، ثم يتم إسقاط التهم بهدوء. مثل عناصر “بلاك ووتر”، ارتكب جنود المارينز فظائع. لكن النتائج كانت وتكون مختلفة. سيقضي هؤلاء “المقاولين” بقية حياتهم في السجن بينما جنود المارينز لن يفعلوا ذلك. في حالة “بلاك ووتر”، كان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تُقَدِّم قربانًا للضمير العالمي الذي بدا أن واقعة ساحة النسور قد دغدته قليلًا.

“بلاك ووتر” هي شركة أمنية عسكرية خاصة، يقع مقرها الرئيسي في ولاية كارولاينا الشمالية بالولايات المتحدة، تأسست عام 1997 من قبل ضابط البحرية الأمريكية السابق إيريك دين برنس. عُرِفت باسم “بلاك ووتر”، ثم بعد واقعة ساحة النسور غير مديرها التنفيذي إيريك برينس اسمها لتصبح إكس آي للخدمات قبل أن يقوم ببيعها سنة 2011 لمنافِسَتِها تريبل كانوبي، وهي تُعرف منذ ذلك الحين باسم “أكاديمي / Academi”. 

تُعتبر “أكاديمي” أكبر شركة أمن عسكرية خاصة في الولايات المتحدة، إذ تمتلك قاعدة عسكرية بحجم 24 كيلو متر مربع، ويخدم فيها، إلى حين كتابة هذا المقال، أكثر من 24 ألف مقاول. تنشط الشركة في جميع أنحاء العالم، ولها أربع مكاتب إقليمية: مكتبٌ في دبي، مكتب في لاغوس، مكتبٌ في لندن ومكتب في واشنطن. يُعرف موظفوها بالمقاولين، المتعاقدين أو المرتزقة، جزءٌ منهم يكون قد خدم سابقًا في الجيش الأمريكي، يتراوح معدل دخلهم اليومي من 300 دولار إلى 600 دولار، يقومون بمهامٍ في شتى أنحاء العالم، من تقديم الحماية لرئيس دولةٍ ما إلى تقديم معلوماتٍ استخباراتية ضد رئيس آخر. 

تُقدم “أكاديمي” خدماتها الأمنية من تدريب إلى تنفيذ عمليات خاصة إلى العمليات السوداء على أساسٍ تعاقدي. تُقدم خدماتها للمخابرات الأمريكية (CIA) منذ 2003، بما في ذلك حصولها على عقد بقيمة 250 مليون دولار سنة 2010، كما وقّعت الشركة عقدًا بقيمة 92 مليون دولار تقريبا مع وزارة الخارجية الأمريكية لحماية دبلوماسييها ومؤسساتها.

لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى المؤسسات الأمنية الخاصة بعد أن اتضح أن أفرادها يتمتعون بكفاءات عسكرية وأمنية عجزت وزارة الدفاع الأمريكية عن إيجادها في المتطوعين في الجيش. وفي ساحات القتال في العراق، نصف المقاتلين في صفوف الجيش الأمريكي هم من المقاولين الذين يُقاتلون على أساسٍ تعاقدي. أما في أفغانستان، يشكل المرتزقة ما يُقارب سبعين بالمئة من المقاتلين في الجيش الأمريكي. قد تخوض أمريكا حروبها المستقبلية معتمدة على المرتزقة بشكلٍ شبه كلي.

عُرِفت حرب العراق بحرب المقاولين بسبب الاعتماد الكبير عليهم من طرف الجيش الأمريكي، في الواقع، بلاك ووتر تُعتَبر رمز الحرب الأمريكية في العراق. وحال أفغانستان ليس عن حال العراق ببعيد، فهناك في أرض الألف شمسٍ ساطعة، حيث ينشط ما يقرب من تسعة آلاف وثمانمائة جنديٍّ أمريكي، يدفع البنتاغون الأمريكي لِما يقرب من أربعين ألفَ مرتزق، يحمل أكثر من ثلثهم الجنسية الأمريكية. وأفادت القيادة المركزية للولايات المتحدة، المسؤولة عن القوات العسكرية في الشرق الأوسط، أفغانستان وباكستان، أن ما يزيد عن أربعٍ وخمسين ألف متعاقد يعملون تحت إدارة وزارة الدفاع الأمريكية.

المرتزقة، المقاولون أو المتعاقدون ليسوا ظاهرةً جديدة، بل هم موجودون منذ الأزمنة القديمة؛ اعتمدت عليهم بلاد فارس واليونان وروما، ومع أنهم كانوا، في نفس الوقت، يمثلون خطرًا على الدول المعتمدة عليهم؛ ففي أوقات السلم كانوا كثيرًا ما يحاولون الإطاحة بنظام الحكم والسيطرة على مقاليد البلاد، إلا أن الاعتماد عليهم كان القاعدة السائدة في العصور الوسطى. كانوا يُنفِّذون أي مهمة ويقومون بأي عملٍ بمقابلٍ مادي بغض النظر عن نوعية العمل أو الهدف منه. يُقاتلون مع من يدفع أكثر من المزايدين الذين كانوا، في ذلك الوقت، إما مُلوكًا، مُلّاك أراضٍ، رجال أعمال أو عائلات غنية أو حتى الباباوات. نشطوا في الصراعات الداخلية بين الدول الأوروبية نفسها، كما نشطوا في الحملات الصليبية ضد المسلمين. وكانت إنجلترا واحدة من أكثر الدول اعتمادًا على المرتزقة في العصور الوسطى، معظم قواتها الذين خاضَت بهم حرب المئة عامٍ ضد فرنسا كانوا من المرتزقة المدفوعي الأجر. 

كوندوتييرو.. هكذا كان يُطلق عليهم في إيطاليا. هناك في بلاد روما، أين بزغ نجمهم لأول مرة في العصور الوسطى، كانوا أكثر احترافية. كانوا جنودًا محترفين يتقاضون رواتب محددة، وقد غيّروا مفهوم الحرب هناك بشكلٍ كبير؛ أدرك المتعاقدون أو المرتزقة هؤلاء أن خوضهم لحربٍ مفتوحة مع جيش الدولة المُعادية هو بمثابة عملية انتحارية، فوجّهوا أسلحتهم نحو مقدّرات العدو وعتاده، أدركوا أن الهجوم على إمدادات العدو وعلى اقتصاده سيُضعف من قدرته على شن الحروب، وبالتالي، اعتمدوا على المناورات العسكرية الخفيفة وحرب العصابات، إن جاز تسميتها بذلك، وبهذا صاغوا مفهوم ‘الحرب غير المباشرة”، وقد أثبتوا أنها أكثر فعالية.

ولكن دور المرتزقة في أوروبا تلاشى تدريجيا عندما بدأت الدول الأوروبية في بناء جيوشٍ مسؤولةٍ أمام الشعب وأمام الحكومات، ومُوَثَّقةٌ، مقيدةٌ أو حتى مستعبدةٌ ليس بالنقد، وإنما بمفهوم الوطنية المعاصرة.

اختفوا لقرونٍ قليلةٍ من الزمن، ثم ما لبِثوا أن غَشوْا رماد الوغى من جديد. أي عصرٍ قد يكون أكثر دمويةٍ من هذا ليكون أكثر ملاءمة لعودتهم؟

فئةٌ من الناس ستُرحِّب بظهور سوقٍ جديدةٍ للمرتزقة، وهذه الصناعة قد ظهرت وهي تتطور بالفعل، فبَحْثُ المستهلكين الجدد عن الأمن في عالم تسوده اللاطمأنينة جعل هذه الصناعة في تكاثرٍ مستمر. والمرتزقة أقل تكلفةً من الجيوش بكثير، تمامًا مثل أن استئجار سيارةٍ أرخص من امتلاك واحدة، فتستأجرهم الدول وقت الحرب، ثم لا يُكلِّفونها شيئًا وقت السلم، لأنه يمكنها ببساطةٍ أن تُنهي عقدهم.

حربا العراق وأفغانستان سرّعا من وتيرة نمو الشركات الأمنية هذه، فقد تحولوا من لاعبين صغار على حافة النزاعات العالمية إلى شركاتٍ متعددة الجنسيات تحرص حقول النفط في ليبيا وتقوم بتحليل المعلومات الاستخباراتية للولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان، تُساعد في محاربة المتمردين في أجزاء في أفريقيا، وتدرب جيوش الأنظمة الموالية لأمريكا والمدعومة منها، كالجيش العراقي وجيش النظام الأفغاني المعادي لطالبان.

معلومٌ أن الصناعة قد توسعت ونمت نموًّا كبيرا، لكن يصعب جدا معرفة مقدار هذا النمو، فقد وصلت تعاملات هذه الشركات إلى كثير من دول العالم بما في ذلك الشرق الأوسط وأفريقيا ولا تكشف الحكومات عن الشركات المتعاقدة معها، وبالتالي يصعب الحصول على عدد المقاولين النشطين حاليا في أنحاء العالم.

كثيرةٌ هي القوى، سواء الدول أو الشركات الضاربة، التي اختارت السير على درب القيادة العسكرية الأمريكية، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: استأجرت نيجيريا مئات المرتزقة لمحاربة بوكو حرام، شركات البترول المختلفة والمنظمات الإنسانية تعتمد عليهم هي كذلك لحماية ممتلكاتها وموظفيها، وهناك من الخبراء من يحتج بأن على منظمة الأمم المتحدة أن تعتمد عليهم هي كذلك. أما روسيا، فلها قواتها الخاصة المعروفة بمجموعة فاغنر، والتي اختلف في فهم كنهها المحللون والخبراء، منهم من يقول أنها النسخة الروسية من بلاك ووتر، أي شركة أمنية خاصة تعمل على أساسٍ تعاقدي، ومنهم من يحتج بأنها قوةٌ تابعة لجهاز الاستخبارات الروسية (KGB) وأنها فرعٌ من قواته الخاصة، وسواءٌ هذا أو ذاك، الواضح أنها ذراع بوتين القذر في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ اعتمدت عليهم روسيا في أوكرانيا، ثم في سوريا، والآن هم يختالون في ليبيا، وسيكون لنا عن هذه المجموعة مقال مُنفصلٌ بإذن الله.

والصين كذلك، ليست في معزِلٍ عن هذه السوق الجديدة، فمجموعة “فرونتيير للخدمات” التي يديرها إيريك دين برينس، مؤسس “بلاك ووتر” ومديرها التنفيذي السابق، تُقدِّم للصين، التى تسعى لأخذ حصتها من الموارد الطبيعية في القارة السمراء، ما يصفه إيريك برنس بــ “اللوجيستيات الاستكشافية” لعمليات التعدين والنفط والغاز الطبيعي في أفريقيا.

إن هؤلاء المرتزقة ينشطون أكثر نشاطهم في دول العالم الثالث، الشرق الأوسط وأفريقيا وأجزاء من آسيا، ولا أحد يُريد لبلاده أن تُحال ساحة لَعِبٍ تَتجوقل فيها هاته الشركات بمختلف جنسياتها مُشعشِعَةً فوضى العصور الوسطى من جديد، فلقد عُرِف المرتزقة بالتهور واللامسؤولية في الأراضي التي وطئتها أقدامهم؛ من قيادة سياراتهم بسرعة هائلةٍ في شوارع بغداد إلى إطلاقهم النار بعشوائية وقتل المدنيين، على هذه القوى أن تخضع للرقابة، ثم للمساءلة القانونية الحقيقية والعادلة.


مصادرٌ ومراجع:

  • Reining In Soldiers of Fortune By Sean Mcfate, published in The New York Times
  • Blackwater’s Legacy Goes Beyond Public View By James Risen and Mathew Rosenberg, published in The New York Times
  • A Verdict on Blackwater, The New York Times
  • As Blackwater Trial Closes, Focus Turns to Moments Before Chaos By Matt Apuzzo and Emmarie Huettemane, published in The New York Times 
  • Before Shooting in Iraq, a Warning on Blackwater By James Risen, published in The New York Times
  • تعريف المرتزق: ويكيبيديا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *