رواية لاعب الشّطرنج: تدافعُ البيادقِ بين الأبيضِ والأسود

هبة الحريري

رغم أنها رواية قصيرة اختُزلت في ثمانين ورقة إلا أنها أعظم ما كَتب ستيفان وأعظم ما كُتب في تلك الحقبة الغربية، اجتمعت فيها أحاسيس النفس البشرية وصراعاتها وظلمها وجورها آنذاك، حيث يضعها ستيفان بداخل لعبة الشطرنج، والتي تشبه الحرب إلى حدٍ ما. تبدأ أحداث الرواية على متن باخرة تجمع بين لاعبين أحدهما بطل العالم للشطرنج والثاني شخصٌ لم يلمس رقعة الشطرنج منذ ما يقارب خمسٌ وعشرون عامًا، عبقريٌّ خرجت عبقريته من رحم المعاناة، والآخر شاهد الشطرنج في سنٍ صغيرة إلى أن أجادها.

السيد كزنتوفيك والذي أصبح بطل العالم للشطرنج، الطفل الخامل والصموت كما وصفه الكاتب، غير المتعلم والذي لم تكن لذهنه الخامل القدرة على حفظ أكثر الدروس بداهة، لم يفلح بشيء سوى هذه اللعبة المعقدة، جشِعٌ يستغل شهرته وموهبته لتحصيل أقصى ما يمكن جنيه من مال، لا وجود لقيم أخرى لديه غير الفوز والمال، محصورٌ في مساحة قدرها أربعة وستون مربعًا أبيض وأسود، يرى نفسه عظيمًا لمجرد أنه تفوق في لعبة الشطرنج على أدهى وأكثر الناس ثقافة. ربما يصور ستيفان كزنتوفيك على أنه شخصية الحكومة النازية آنذاك ومعظم الحكومات كمثلها، حيث استغلت الأراضي النمساوية وشعبها، كما وأخذت عدة مناطق تحت سيطرتها واعتقلت أفرادًا منها بغية أخذ المال منهم قسرًا.

ويكشف ستيفان عن أساليب التعذيب النفسي أثناء الحرب النازية وكيف للفراغ أن يفعل في هذه النفس الإنسانية، ويشكلها في تجسيدٍ لشخص السيد “ب” حيث يعرض صراعاته النفسية داخل غرفته الانفرادية أو ما يمكن تسميتها عزلًا انفراديًا، وصمته وتحفُّظه في سبيل ألّا يخون أمانته ويوقع باثني عشر شخصًا آخر، وكيف يقاوم المخ البشري ليصل لذروة ذكائه وبراعته وأنه مهما حاول الطُغاة قمع هذه النفس وإتلافها وعزلها بغية رغباتهم ستظل عصية أبية عليهم.

ويكشف عن قدرة وخيال الإنسان في خضم وظل الظروف العسيرة في أن يسخر ويهيئ ما حوله وفقًا لمتطلبات الوضع، وسرعة اكتشافه وتكيفه مع التعقيدات والقدرة على حلها، وقدرة خياله على التخلي عن الملموسات ليصبح عقله هو المهيمن واللاعب الرئيسي، وتتجلى في تصارع السيد “ب” مع أناه الذاتية بين الأبيض والأسود على رقعة متخيلة معاناة معظم البشر حيث التصارع مع الذات الداخلية وازدواجية معاييرها بين لونين محايدين الفائز بينهما خاسر.

وها هو السيد “ب” كما وصفه الكاتب، الإنسان المتواضع والمواطن الشريف، المناضل في سبيل حماية أمانة العمل والمهنة يلتقي بالسيد كزنتوفيك والذي يمثل صفات الجشع والطمع والغلاظة واستغلال الآخر، شخصان وروحان متضادتان على رقعة الشطرنج التي تجمع كل المتضادات، يمثل السيد كزنتوفيك الشخص النازي الجشع حيث يعتبر النصر في ملحمة الوجود الكبرى هو بتحريك بيدقين ومهاجمة الملك، الشخص الذي لا يهمه مَن أمامه ولا يرى إلا ساحة الحرب والقتال في سبيل غايته وهي ما مَثَّلها الكاتب في رقعة الشطرنج، بينما يمثل السيد “ب” المواطن الثائر المُستضعف مسلوب الحقوق في مواجهة لهذا الحشد من النازيين.

تبدأ اللعبة بهدف وغرض محدد حيث يريد كِلا الاثنين اختبار قوته، ثم ما لبثت أن صارت رغبة عارمة للانتقام وشهوة للفوز وكراهية بين الزميلين،وربما يقصد ستيفان ما تفعله الحروب فينا، نبدأ بغرض الإصلاح ثم تتحول الحرب إلى انتقامات وانتصارات تاريخية بين بعضنا متناسين ما لأجله بدأناها، ولكن هناك دائمًا ما يدفعنا للوقوف، للنظر في ما نفعل، ربما ضميرنا وربما شيءٌ ما قد ترك فينا ندوبه ليُذكرنا بما نخشى، شيءٌ مايخبرنا أن ابتعدوا!

وقد كان هذا مادفع السيد “ب” لينهي مباراته المحمومة مع السيد كزنتوفيك ليوقف بهذا انجراره وانجرافه نحو الطريق المشهود والمعروف بفتكه ولعنه للخائضين فيه، طريق الصراع والقتال، طريق الجنون والولع بالانتصار والانتقام للنفس.

كانت هذه الرواية هي الأخيرة لستيفان والتي قال عنها أنها العمل المفضل البائس، أطلق ستيفان صيحته الأخيرة بعدها بـ “كش مات”.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *