بين الوعي واللّاوعي: هل نحن حقًّا مُشتّتون؟

آية الحريري


لطالما تساءلتُ عمَّن يكون الإنسان الواعي، وكيف يصير المرء واعيًا، وماهية هذا الوعي حقيقةً؟ كنت قد عرفت الواعي على أنه الفهيم والذي يحسنُ التصرف، لكنّي أعي الآن باختلاف الكلمتان، فالوعي يأتي أولًا ثم يسبقه الفَهم.

ما هو الوعي

 الواعي إيجازًا هو من يملك الوعي بذاته وما حوله، والوعي بالذات هو أن تُحِسَّ وتعرف، أن يكون عقلُك وذهنك حاضرًا في اللحظةِ الآنية، وتُدرِك حركاتِك وسكناتِك، وما يخالِجُك من أحاسيس، ثم يأتي الوعي بما حولك، وهذا إنما يكونُ بحواسِكَ، أن تسمع فتفهم، وترى فتعرف، وتنطِقَ فتُدرِكَ الكلمة، وتسترجع فتتذكر، وفي قوله تعالى، في سورة الحاقة: “وتَعِيها أُذنٌ واعية” فالأُذن الواعية هنا هي الأُذن الحافظة لمَا تسمع والحفظ إنما يأتي بفهم واستيعاب الكلام وهذا يتطلب الوعي للكلام بدايةً، لا أن تسمعها أُذنٌ ساهيةٌ لاهية، فإذا كان هذا هو الوعي فنقيضه اللاوعي.

والمعضلة الكبرى تكمن في أن اللاوعي أصبح المُهيمن على حياتنا وبقوة، والإنسان اللاواعي كالسائر في نومه، فهو مستغرقٌ كل الاستغراق في أفكاره ومشاعره وما ينشأ داخله في حين يتطلب منه أن يكون واعيًا لذاته وما حوله، فأنت حين تغرق في نفسك غير واعٍ لما تفعل ولِما يحدث حولك هُنا يكون اللاوعي هو من يُسيّرُك، لأنك أغلقت باب الوعي فأعطلت عمل القشرة الجبهية في دماغك وهي صاحبة تسيير الوعي والإدراك بما حولك، وعندما تُعَطَّل القشرة الجبهية عن العمل يبدأ التصرف اللاواعي بالانبلاج، بدليل حالة المرء عند الغضب المفرط فلا يقعُ له طلاقٌ ولا تُحسب عليه أيمانٌ ولا يُجادل معه، وهذا لعطل القشرة الجبهية التي تحرك الوعي والإدراك فيه فيظهر اللاوعي ليحركه.

 الإشكال الآن أن ما نراه من ذهاب الوعي والانقسام بين الوعي واللاوعي عَظُمَ وكَثُر، هذا الحضور الذهني والسيطرة على الموقف بعقلك وفكرك أمرٌ قلّمَا أصبحنا نجده، بل نعي فجأةً أننا قد خلطنا عملنا أو أننا سهونا أثناءه مما يأتي علينا بالمشكلات، وإن هذا الشرود والسهو المفرط لهو تصرف اللاوعي لغياب الوعي في اللحظة الآنية وعدم إدراكه لحركاته وما يفعل أثناء هذا العمل، وذهاب الوعي هذا هو من أسباب ما نراه من شتات الذهن وشروده السلبي وقلّة الانتباه وعُسر التركيز، فنحن لا نستشعر حتى مذاق الطعام لذهاب وعينا عند الأكل، ولا باقي أمور الحياة التي اعتدناها وسلبنا منها الوعي فيها وأصبح لاوعينا هو من يُسيرُها.

الوعي في الإسلام

 إنّ الدين الإسلامي يُظهر لنا في كثيرٍ من أحاديثه النبوية وآياته القرآنية مركزية حضور الذهن والوعي في أمور الحياة، فهو يحضُّ على الذهن الحاضر والواعي، وتربينا سنة رسوله الكريم عليه، وقد صرَّف كثيرًا فيه، ومنه ما قيل في الصلاة من وجوب الوعي فيها واستشعار أركانها وأذكارها، فيقول صلى الله عليه وسلم: “لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان”.

وهذا مما يُدلل على أهمية حضور الذهن وفي أن يكون الإنسان واعيًا لكل ما يفعل، وقد نزلت آية “ولا تقربوا الصلاة وأنتم سُكٰرى حتى تعلموا ما تقولون”، وقال ابن عباس: “ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها”، فيركز الدين الإسلامي على الوعي أثناء الصلاة لكيلا يذهب لُبَّ المرءِ فيشرُدَ ويتخذها عادةً يتصرف بها لاوعيه، ويحضُّ على الوعي أيضًا في قوله عزّ وجل: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها”، فهذا الوعي هُنا هو الوعي بالكلام المذكور وحضورُ الذهنِ فيه، فيقول السيوطي رحمه الله: “صفة التدبر أن يشغل القارئ قلبه بالتفكر في معنى ما يتلفظ به فيعرف معنى كل آية، ويتأمل الأوامر والنواهي، ويعتقد قبول ذلك”، فالقراءة بوعيٍّ مطلوبةٌ في الشرع ويُحثُّ عليها.

ومن أشكال الوعي في الدين الإسلامي أيضًا هو حضور الوعي عند السماع فيقول -تعالى- “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون”، كما وعلمنا رسولنا صلّى الله عليه وسلم الآداب لكل أمرٍ وكلَّ فعلٍ كأن نسمي الله عند الأكل ونأكل باليمين ومما يلينا، وكطريقة شرب الماء وتقسيمه لثلاث دُفع، فهذا كله يهيءُ الإنسان ليكون حاضرَ الذهنِ عند قيامه بأمرٍ من أمورِ دُنياه، وإن كلَّ هذه الوصايا والتأكيد عليها يُعَلَّمُ بها المرءُ مع تكرارها على أن يكون حاضرَ الذهِنِ واعيًا.

ما غاية الوعي؟

 إنّ حضور الذهن واليقظة في حالة الوعي هو بمثابة إنعاش عقلي ذهني، ففي هذه الحالة تعمل مناطق عِدة في الدماغ حيث تترابط الوصلات العصبية مع بعضها، ومنها المناطق المسؤولة عن الذاكرة كالحُصين، فاليقظة الذهنية تُعزز الذاكرة، كما وتُبعد التشتت وتعزز الانتباه لتركيز الدماغ التام أثناء حالة الوعي، ومن منافعها أنها تحّدُ من الانفعالات النفسية المفرطة، كالغضب والتوتر، حيث أن الوعي بالذات ومعرفة شعورك وتسميته أثناء اللحظة الآنية عند الانفعالات تمنع عليك اجترار الأفكار المسببة لهذه الانفعالات، لأنك بهذه تخفف من وطأة عمل الجهاز الحوفي (وهو المسؤول عن الانفعالات والشعور) في الدماغ وتُعمِل القشرة الجبهية فتستدرك شعورك قبل أن يهيج.

كما وأنها تُحسِّن من تواصلك مع الآخرين، فالوعي بالآخر وبما حولك كما سبق وقلت يتطلب الوعي بالاستماع والرؤية والتكلم الواعي غير الساهي وأن تسترجع فتتذكر، وهذا من شأنه أن يُعينك على فهم الناس ومعرفتهم وأن تعي بخصومك ودوافعهم، وأن يألفك الناس؛ لأن اليقظ والمستمع لمن حوله يوحي باهتمامه و قدرته على فهم الآخر وتقديره، مما يعزز الأُلفة والارتياح فيهم؛ ويُجنِّبُك الوعي بكلامك أن تتفوه بما ليس في محله فتنأى بنفسك عن سفاسف الكلام وما لم تعقله.

وأزيد غايةً أخرى وهي الانسجام والاندماج مع مكونات الحياة والوجود، فما أكثر ما صرنا نجد الآن أناسًا لكأنهم في عالمٍ موازٍ، منفصلين دائمًا عن الخارج يعيشون في دواخلهم متقوقعين فيها، ما تسألهم من شيء إلا وألفيتهم كانوا غير مدركين ولا مبصرين لما يحدث رغم وجودهم، فهولاء مشتتين لا يجدون إلى الوعي سبيلًا.

مُسبِّباتُ ذهاب الوعي واليقظة

 وبعيدًا عن الأمراض الجسدية والعقلية إنما سأتكلم عن المسببات التي هي بإرادتنا، وإن من أكبر مسببات ذهاب الوعي واليقظة الآن هو السير السريع في حياتنا واستعجالنا الأمور، وميلنا إلى الاستجابات الآنية واللحظية، فما دخل إلينا من ثقافة وبرامج غربية قد أودى بنا إلى “الركض في الحياة”، فصناعة محتوىً سريع كالمقاطع المصورة ذاتِ الثواني المعدودة وإدخالها لمعظم البرامج المستعملة لهو معضلة كبيرة تجاه وعينا، كما أصبحت عادةُ السهر أمرًا طبيعيًا لا يفارق معظمنا، بينما ينهى ديننا الإسلامي عن السهر إلا لحاجة، وما هذا إلا لما يجلبه السهر من شرودٍ ذهني وفقدان اليقظة، وفي هذا دراسات وبراهين علمية واسعة.

ربُما قد يلقى هذا معارضةً، لكنَّ للطعامِ شأنٌ عظيم في ذهاب الوعي وشتاته، فما نأكله له أثر بليغ على دماغِنا وبالتالي على إدراكنا ووعينا وانتباهنا، وقدرتنا على الاسترجاع والتذكر لما يحدث في لحظات وجودنا، والثبات على تركيز وعينا ناحية شيءٍ ما، وبالنسبة لما صرنا ندخله في طعامنا الآن فحدِّث ولا حرج، إن معظم الأطعمة هي أطعمة مستوردة من الغرب، وتشمل محتوياتها ما يحذرون منه في دراساتهم لضرره على صحة الإنسان، ومع هذا نحن لا نتوانى عن قبول استيراده منهم، وإن أثر الطعام يصيب بكتيريا الجهاز الهضمي إما بخيرٍ أو بِشر، وفي كلتا الحالتين تؤثر البكتيريا بإنتاج الهرمونات، منها هرمونات اليقظة كالادرينالين والميلاتونين، والتي بدورها تتأثر بخلل الطعام وتسبب تشتت الوعي وخمول الذهن.

 ومن شأن الانفعالات النفسية المفرطة أيضًا كالخوف والتوتر والقلق أن تكون مسببًا من المسببات؛ لكثرة ما ترهق الذهن والعقل فيضحي المرء غارقًا دومًا في سلسلة أفكار داخلية تذهب وعيه عن ذاته وعمّا حوله، وقد سبق وقلت أن الوعي بالانفعالات يحدُّ من تأثيرها والعلاقة بينهما عكسية فإذا زادت الانفعالات قلّ الوعي وإذا زاد الوعي قلَّت هي.

تعزيز الوعي والحضور الآني

 سوف أختم هنا بعدّة نقاط تُعين على حضور الذهن والحدّ من التشتت، أولها تجفيف منابع المُسببات بالتّدرُّج فيها، أن تبدأ بتقليل مدة سهرك شيئًا فشيئًا إلى أن تعتاد البكور في النوم والصحو، وتلزمَ طعامَك بما يطيب لجسمك لا لنفسك، وتنأى بنفسك عن القلق والخوف وتتوكل على خالقك، وأبعد عنك مُلهيات البرامج والأفلام كلَّ البُعد، وأعْمِل حواسَّك بما حولك تعتاد على حضور ذهنك مع الآخرين، وحضورك في اللحظة، لا الحضور الباهت الذي يشبه العدم.

 ثم بعد سعيك لتجفيف منابع المُسببات سيتكيف دماغك لمرونته العصبية على أن يدخلك في حالة الوعي واليقظة دون محاولات شاقة منك، فتلفي نفسك وقد صرت أوعى من ذي قبل.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *