أبو زكرياء
ترجمة: لبنى فرّوق
إن الآراء الواردة أدناه تعبر عن توجهات أصحابها، ولا تتبنى يقظة بالضرورة جميع التوجهات المذكورة في هذا المقال.
خلال الحقبة الاستعمارية، أنشأت الدول الليبرالية الغربية إمبراطوريات شاسعة تشمل الكثير من العالم الإسلامي. طورت هذه القوى أساليب منهجية للحكم مصممة خصيصًا للسكان المسلمين – وهي أساليب لا تزال قائمة اليوم، من نواح كثيرة، في سياق ما بعد الاستعمار.
على عكس التصور التقليدي بأن الليبرالية تعارض الإمبريالية والمركزية العرقية والعنصرية، فإن السياسات التاريخية للدول الليبرالية تشير إلى خلاف ذلك. بدلاً من مقاومة هذه القوى، يبدو أن الليبرالية قد دعمت بنشاط – وربما قد تم تصميمها لتعزيز – نظرة عالمية ترتكز على افتراضات إمبريالية وعنصرية وإثنية.
تواصل الدول الليبرالية الغربية ممارسة نفوذها على المجتمعات الإسلامية من خلال أداة جديدة، حقوق الإنسان، التي تعمل الآن كوسيلة لإدارة هذه المجتمعات وتحريرها فيما يرقى إلى تكرار حديث للاستعمار.
ضياع التقليد والمعنى
ظهرت الليبرالية في القرن الثامن عشر مع إدخال المفهوم الحديث “لحقوق الإنسان”. وفقًا لهذا الإطار، يمتلك جميع الأفراد حقوقًا متأصلة تستند إلى المثل الليبرالية مثل الحرية والمساواة والإنسانية.
منذ نشأتها، كان يُنظر إلى حقوق الإنسان على أنها ديناميكية ومتطورة باستمرار. يتم المساواة بين التقدم و “التطوير” من خلال التقدم الأخلاقي والتحولات في تصورات الصواب والخطأ. ونتيجة لذلك، يجري تنقيح التشريعات وتحديثها باستمرار.
وعلى سبيل المثال، لم تكن المثلية الجنسية تعتبر في يوم من الأيام حقًا من حقوق الإنسان، في حين أنها اليوم كذلك. إنها عملية لا تنتهي لتوسيع “الحريات” و “الحقوق” الفردية.
تتخذ الليبرالية موقفًا نقديًا تجاه الأعراف الاجتماعية لما قبل الحداثة والهياكل المجتمعية التقليدية، وغالبًا ما تعاملها على أنها غير متوافقة مع حقوق الإنسان. وهذا ينطبق على المجتمعات المسيحية واليهودية والمسلمة التقليدية على حد سواء، والتي تميل إلى التأكيد على القيم الجماعية مثل الزواج والأسرة وإقامة الشعائر الدينية والهوية المجتمعية. على النقيض من ذلك، تعطي الليبرالية الأولوية للاستقلالية الفردية، وتضعها في كثير من الأحيان فوق هذه الروابط الاجتماعية وبالتالي تخلق توترًا مع المعايير والقيم التقليدية.
بحلول القرن التاسع عشر، اعترف العديد من المفكرين الأوروبيين بأن الليبرالية – التي تُفهم على أنها التوسع التدريجي للحرية الفردية والمساواة – تساهم في تفكك التماسك الاجتماعي. أدى التخلي عن الأطر التقليدية، التي طالما اعتبرت غراء النظام الاجتماعي، إلى فقدان عميق للمعنى والهدف.
تعتبر الليبرالية التقاليد والدين عوائق أمام مهمتها التحريرية. وقد دفعت وجهة النظر هذه إلى “إصلاح” الدين من خلال إعادة تفسير النصوص المقدسة بما يتماشى مع المفاهيم المتطورة لحقوق الإنسان. في القرن الثامن عشر، نجحت القوى الليبرالية في إعادة تشكيل البروتستانتية والكاثوليكية لاستيعاب مبادئ مثل الحرية الدينية – الحق في الردة أو التخلي عن الإيمان أو عدم اعتناق أي معتقد ديني على الإطلاق. وهذا يمثل خروجا كبيرا عن المذاهب السابقة التي أدانت غير المسيحيين.
وقدذهب بعض الفلاسفة الليبراليين، مثل إيمانويل كانت، إلى حد المطالبة بإصلاح ديني مستمر لضمان التوافق مع التقدم الأخلاقي، كما هو محدد من خلال تغيير معايير حقوق الإنسان.
“عبء الرجل الأبيض” والتقدم الحضاري
يرتبط مفهوم الليبرالية لحقوق الإنسان ارتباطًا وثيقًا برؤيتها الأوسع للتقدم الحضاري والإمبريالية. منذ القرن الثامن عشر فصاعدًا، تبنى الفكر الليبرالي سردًا تاريخيًا معينًا مناطه أن المجتمعات البشرية تتقدم حتمًا – ماديًا، من خلال التقدم في العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد ؛ وأخلاقيًا، من خلال تطوير حقوق الإنسان.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تم تأطير هذا المسار على أنه “تقدم حضاري”. اليوم، يشار إليها بشكل أكثر شيوعًا باسم “التنمية”. يفترض مفهوم “البلدان النامية” أن الديمقراطيات الليبرالية الغربية تمثل ذروة التقدم البشري.
دعا المفكرون الغربيون والقادة السياسيون وصناع القرار منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى الانتشار العالمي لليبرالية، واعتبروها حقيقة عالمية متأصلة في النظام الطبيعي. هذه “المهمة الحضارية”، التي يشار إليها غالبًا باسم “عبء الرجل الأبيض”، وضعت الأوروبي المستنير كعامل مسؤول عن النهوض بالمجتمعات التي يفترض أنها متخلفة، أي تلك المتجذرة في المعايير والهياكل الاجتماعية لما قبل الحداثة.
كان من المتوقع مقاومة هذه المهمة، لا سيما من المجتمعات غير الغربية التي تسعى إلى الحفاظ على أساليب حياتها وتقاليدها الدينية وقيمها المجتمعية. ونتيجة لذلك، كان “عبء الرجل الأبيض” يفرض عليه استخدام الإكراه والعنف والتدابير الاستبدادية لدفع الحضارة نحو تنوير أكبر من أي وقت مضى. هذا الاعتقاد بأن الشعوب غير الغربية كانت متخلفة فكريًا وأخلاقيًا برر فرض السيطرة الخارجية لتسهيل نقل التكنولوجيا والمؤسسات السياسية والأنظمة الاقتصادية – وهي أدوات تهدف إلى تعزيز “التقدم” و “التنوير” و “التنمية” بالقوة.
بين أواخر القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين، مارست الإمبراطوريات الليبرالية الغربية سيطرة واسعة على السكان المستعمرين، مستغلة الموارد البشرية والطبيعية على حد سواء. أدى استعمار الأراضي الإسلامية وحدها إلى تقتيل الملايين وتفكيك المجتمعات الأصلية.
وما زال الإرث مستمرًا
خلال الفترة الاستعمارية، فرضت القوى الإمبريالية الأوروبية قوانين في مستعمراتها تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمع وفقًا للأفكار الغربية حول الحرية والمساواة وحقوق الإنسان. واليوم، تولت نفس المهمة مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة، والتي تلعب دورًا رئيسيًا في نشر القيم الليبرالية الغربية في جميع أنحاء العالم ودعم النظام العالمي الليبرالي.
على الرغم من صورتها كمؤسسة محايدة تعامل جميع الدول على قدم المساواة، إلا أن الأمم المتحدة غالبًا ما تعكس مصالح القوى التي خرجت منتصرة بعد الحرب العالمية الثانية. و بدلاً من العمل كمنصة غير متحيزة، تساعد الأمم المتحدة في توجيه الشؤون العالمية في اتجاه يميز العلمانية والليبرالية والاستهلاكية وتآكل الطرق التقليدية لتنظيم الحياة.
وواحدة من الأدوات الرئيسية لهذا التحول هي الدولة القومية الحديثة.
كمؤسسة علمانية، تشجع الدولة القومية الناس على تحويل ولائهم بعيدًا عن الدين والقبيلة والأسرة، والانصهار بدلاً من ذلك في الكيان القانوني المجرد المعروف باسم “الدولة”. من خلال ذلك، يتم إعادة تشكيل الأفراد ليصبحوا مواطنين يتمثل دورهم في دعم الأهداف العلمانية والليبرالية للدولة – غالبًا على حساب أشكال الانتماء الأقدم والأكثر تجذرًا.
وبهذه الطريقة، تطور ما بدأ كهيمنة استعمارية علنية إلى جهد مؤسسي أكثر دقة لإعادة تشكيل المجتمعات لتلائم صورة الغرب – وهو جهد لا يزال يسترشد بنفس القناعة الأيديولوجية بأن الليبرالية هي الوجهة النهائية للتقدم البشري.
إضافات فريق التحرير:
إن الصورة الرئيسية لهذا المقال هي رسومٌ كاريكاتورية تصور تمثيلاً لقصيدة روديارد كيبلينغ الشهيرة “عبء الرجل الأبيض”. نُشرت القصيدة لأول مرة في فبراير عام 1899، وسرعان ما أصبحت فلسفتها تعبّر عن تبرير الولايات المتحدة على ضمّ الفلبين. استخدمت الولايات المتحدة مفهوم “عبء الرجل الأبيض” كحجة للسيطرة الإمبريالية على الفلبين وكوبا، على أساس أن هذا الغزو كان ضرورة أخلاقية، فقد أصبح واجب الولايات المتحدة الأخلاقي – كما زُعم – هو تطوير وتحديث وتعمير الأراضي التي تم غزوها، من أجل مساعدة “البرابرة الأجانب” على بلوغ الحضارة.
يحتوي هذا التصوير على قدرٍ كبير من العنصرية، حتى وإن عُبّر عنها بشكل غير مباشر، وذلك للأسباب التالية:
تفوق أوروبي متمركز حول الذات – إذ يفترض أن الحضارة الغربية (البيضاء) متفوّقة، وأنه من “الواجب الأخلاقي” استخدام القوة والغزو لنقل الحضارات الأخرى من التخلف إلى التفوق والتطور. كما أنه يخالف الواقع آنذان، فقد كانت معظم الأقاليم الإسلامية غير المستعمرة وخاصة الواقعة ضمن حدود الدولة العثمانية، تتمتع بتفوّقٍ أخلاقي وحضاري بيّن، وإن كانت العلوم المادية قد تراجعت قليلًا، إلا أنها كانت تحظى بدعم الدولة واهتمام الناس وشغفهم بها.
لغة تجريدية ولا إنسانية – مصطلح “البرابرة الأجانب” يصوّر الشعوب غير الغربية على أنها شعوبٌ متوحشة ودونية.
تبرير استعماري – إن مفهوم “عبء الرجل الأبيض” عنصري بعمق في حد ذاته، لأنه يصوّر الاستعمار وكأنه عمل نبيل وغير أناني، بدلاً من كونه استغلالاً.
وباختصار، تعكس هذه الصورة الأيديولوجيا الاستعمارية العنصرية التي برّرت الهيمنة الإمبريالية تحت ذريعة “مساعدة” الشعوب الأخرى، وهي عقلية مازالت مغروسة في عقول وقلوب قادة الرأي الغربيين حتى اليوم.
المقال الأصلي: The White Man’s Burden: An Overview