البَيعةُ التي نَسيها أغلبُ المُسلمين

ليلى حجار


عند تلاوَتنا للقرٱن الكريم، تَستوقِفُنا آياتٌ عدّة، آية تُبشّرُنا، وآية تنذِرُنا، آية تُبصّرُنا طريقَ هدايتنا، وآية تُوقظُنا من غَفلتنا.

و في سورةِ التوبة، استوقَفتني آيةٌ كنتُ قد مررتُ عليها سابقًا أثناء قراءتي و سمعتُها، ولكن هذه المرة دفعني فضولي لتدبّرها، فَدُهشت من عظيم معناها، لما تحمله من آثارٍ عظيمة في طياتها.

لذا أحبَبتُ أن أجمعَ بعضًا من كلام المفسّرين، ووقفات لعلماء و مربّين، حولَ هذه الآية الكريمة، لنعملَ بمقتَضاها، ونهتديَ بهديها بإذن الله تعالى.

وهذه الٱية هي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).

تفسير السعدي رحمه الله

﴿إِنَّ اللَّهَ اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَأَموالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقاتِلونَ في سَبيلِ اللَّهِ فَيَقتُلونَ وَيُقتَلونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ﴾ [التوبة: ١١١].

يخبر تعالى خبرًا صدقًا، ويعدُ وعدًا حقا بمبايعة عظيمة، ومعاوضة جسيمة، وهو أنه ﴿اشْتَرَى﴾ بنفسه الكريمة ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ فهي المثمن والسلعة المبيعة.

﴿بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح، والمسرات، والحور الحسان، والمنازل الأنيقات.

وصفة العقد والمبايعة، بأن يبذلوا للّه نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه، لإعلاء كلمته وإظهار دينه فـ ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ فهذا العقد والمبايعة، قد صدرت من اللّه مؤكدة بأنواع التأكيدات.

﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم، وأعلاها، وأكملها، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق.

﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا﴾ أيها المؤمنون القائمون بما وعدكم اللّه، ﴿بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ﴾ أي: لتفرحوا بذلك، وليبشر بعضكم بعضًا، ويحث بعضكم بعضًا.

﴿وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز أكبر منه، ولا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، والنعيم المقيم، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات، وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله، وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان.

وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل، وبأي كتاب رقم، وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق.

وقفةُ الشيخُ عمر عبد الكافي-حفظه الله- مع هذه الآية

ومن الوقفاتِ التي أعجَبتني في تفسيرِ هذه الآية، وقفةُ الشيخ عمر عبد الكافي. فَفي مقطعٍ له على يوتيوب، فسّر هذه الآية وأوضحَ الغاية منها فقال:

حصلَ بيننا وبين الله عز وجل بيعٌ وشراء، ولكنّنا نسِينا البيعَ، يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

– المُشتري من؟
– الله سبحانَه وتعالى.
– و البائعُ ؟
-المؤمنين.
– اشترى ماذا ؟
-أنفُسهم وأموالهم.
يعني أنا بعت نفسي لله تعالى وهو خالقها.

من كرم الله علينا، أعطانا النفس والمال.
هذان أمانة عندك، إلى أن يقبضك الله لتدخل في عالم البرزخ، ثم الآخرة.

–  لماذا حرّم ربنا تعالى الانتحار ؟
أنت في العادة تتخلص من شيء أنت تملكه، لكن أنا لا أملك هذا الشيء-النفس والمال-
-لماذا حرم أن أشتري في المال مخدرات أو خمر وأشياء لا ترضي الله عز وجل؟
-لأنّ المال مال الله تعالى.

للنظُر لذلك المثال، لنفترض أنّي اشتريتُ منكَ سيارة، ولعلمي المُسبق بأمانتكِ، أعطيتكَ مفتاح السيارة وقلت لكَ أن تبقيها عندك وتحفظها إلى أن آخذها في الوقت المحدد.

-هل يجوز لك أن تؤجّر السيارة؟ هل يجوز لك أن تركبها وتستخدمها؟
-لا.
-لماذا؟
-لأنّها أمانة

فعندما تَعمل الناس لغير الله، والمال عندما يُنفَق لغير وجه الله، فنكون قد ضيعنا الأمانة!

يقول : مالي وأنا حرٌ فيه وجسمي وأنا حرٌ فيه، فيذهب و يشتري السجائر، يدخن به، يكون قد أضاع المال، وأضاعَ النفس، وهما أمانتان، فضيّع الأمانة، وما وفّى بالنذر!

-ما هو ثمن هذا الشراء؟
-الجنة.

الذي اشترى منّي ومنك ومن المؤمنين أنفسنا وأموالنا، هو الله عز وجلّ، وهي ملكٌ له أساسًا وهو الذي وهبنا إيّاها، ولكن من كَرمه تعالى أن أستأمَننا عليها.

(فَاستَبشِروا بِبَيعِكُمُ الَّذي بايَعتُم بِهِ وَذلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظيمُ).

استبشر أيّها المؤمن، فقد تمّت البيعة!

أثَر هذه الآية على حياة الدكتور عبد الرحمن السميط-رحمه الله-

في لقاءٍ أقامه البناء المنهجي مع الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن السميط، والذي تحدّث فيه عن القارة المنسية، وعن حياةِ والده رحمه الله، ذكر تأثير هذه الآية على حياة أبيه عبد الرحمن السميط رحمه الله، فقال:

كانَ-رحمه الله- يكثر من ترداد هذه الآية، وكنتُ أظن أنّ هذه الآية هي فقط ترتبط بالجهاد، و أستغرب من تكرار هذه الآية على لسانه.

وفهمتها مؤخرًا، أنّه إذا كنا ندّعي أنّنا مؤمنين، فإنّ هذه البيعة تمّت، وليس لنا أيّ ملكية فيما ذكره الله سبحانه وتعالى من بضاعة بعناها لله عزّ وجلّ و الله سبحانه وتعالى اشتراها.

فالآن أنتَ في مرحلة حفظ هذه الأمانة، حتى تُسلّمها لله عز وجل، ويتوجب عليك ألّا تطفّف في هذه البضاعة.

و مادام أنّ هذه البيعة تمّت، فإنّنا لا نملك أنفسنا ولا نملك أموالنا، وإنما هي لله عز وجل، متى ما كتب الله  سبحانه و تعالى يوم تسليمها، يجب أن نسلمها وهي بكامل كفاءتها وأثرها وقوتها.

وقد كان يكررها الدكتور عبد الرحمن -رحمه الله-لقصدٍ ولإيصال رسالة، أنّه ما دام الله سبحانه وتعالى اشتراها، فلا نملكها، لأنّنا سلمناها لله تعالى، فلا بد أن نستمر في هذه البيعة و لا ننقضها، نقضنا إيّاها يعني أنّنا خرجنا من دائرة الإيمان، واستمرارنا فيها هو استمرارنا في دائرة الإيمان.

وختامًا

وبعد فهم وتدبّر هذه الٱية، لنحرص على صحة أبدَاننا، وسَلامة عقولنا، وتغذية أرواحنا وقلوبنا بما جعله الله غذاءً لهُما.

وقد قال ابنُ جزي في التسهيل لعلوم التنزيل :  “قال بعضهم: ما أكرم الله، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منّا بهذا الثمن الغالي، فإنّها لصفقة رابحة”.

فيا أيها المؤمنون ذَكِّروا أنفسكم وغيركم بهذه الصفقة الرابحة، لترقوا بأنفسكم وتزكّوها وتحافظوا عليها، ولترضوا بأقدار ربكم تعالى، فكما قال د. خالد أبو شادي فرج الله عنه:

إنَّا لِله.. ‏

يصنعُ بِنا ما شاء..

‏اشترانا بِالجنَّة..

‏فاستبشِروا بِبَيعِكُمُ الذي بايعتُم بِه.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *