مسارُ المسلم نحو التمكين النفسي

هبة الحريري


في خضم ما نكابده بحياتنا وما نواجهه من مصائب وبلايا تحل على الإنسان وتصبُ عليه صبًّا، على الواحدِ منّا أن يكونَ لديه التمكين النفسي القوي والشخصية المتينة المبنية على أسس ومبادئ ثابتة غير متزعزعة، وأن يتحلى بالفهم الجلي الواضح لهذه النفس وهذا الإنسان وما جبلهُ الله وخلقهُ عليه ليكونَ قادرًا على تحمل هذه الحياة برضًى وفهمٍ تام، وليستطيعَ التعاملَ مع ما يمر به من مكدراتٍ بعقلٍ راجح ونفسٍ قوية سليمة تعينُه على مشقة الحياة، حيث أنّ الدين الإسلامي قد شرحَ وفصَّل تفصيلًا واسعًا هذه النفس وما عليها وما لها وما يخالجُها من أمورٍ ونياتٍ حسنةِ كانت أو سيئة وكيف للإنسان أن يديرها ويكبح جماحها وأن يمهد لها طريق الحق حتى لا تزيغ عنه للباطل، كما وأوضح عن طريق نبيه الكريم وقرآنه العظيم ماهية تمكين تلك النفس ويسر للإنسان فهمها.

وهنا سأكتب بعض نقاط التمكين النفسي وبناء الشخصية، ومما قد جمعه العلماء عن تمكين وبناء تلك النفس، وقد حصرتها وأوجزتها في بضع نقاط ليسهل على القارئ الإلمام بها.

أهم نقاط التمكين النفسي المتين هو فهمك للتصورات العقدية وفهمك للإيمان وكل ما يتعلق بالقضايا الوجودية الأساسية في هذه الحياة، أن تفهم عن الله وتعرفه وتعرف أسمائه وصفاته، أن تعي وتفهم هذا الدين وكيف أتى من خلال القرآن والسنة ثم يجرك فهمهم إلى أن تعرف معنى الحياة والإيمان، قد يسأل البعض عن علاقة المنظور الديني الإسلامي في علم النفس الإنساني وبناء الشخصية، نقولُ إنها علاقة وطيدة أساسية، لأن الدين الإسلامي يقوي الجانب الروحي ومن المهم أن تعلم أن الإنسان بلا هذا الجانب الروحي غير قادر على أن يكون قوياً ولا أن يواجه ظلمات الحياة ، فهو جانب أساسي جدًا في تكوين نفس الإنسان، ومما يدل على هذا أن الإنسان البدائي في عصور الغرب الوسطى اخترع لنفسه تأملات و شعائر روحية ليغذي هذا الجانب الروحي الذي لا غنى عنه، وهذا أمر لا تستطيع أي موجة أخرى إتيانه، غير أن الدين يحرك المشاعر الإنسانية التي لا يمكن ان تتحرك بغيره مثل السكنية والروحانية والطمانينة، ويرفع مستوى اليقين بالحقائق الكونية والراحة من القلق والشك، فهذا اليقين الذي يجعلك موقن بهذه الحقائق الكونية يفيد في بناء النفس، ويفيد الإيمان أيضًا في تمكين النفس بالجهد المبذول في تحقيق هذا الايمان خلال يومك، أي ما تصرفه من يومك لتعلم الإيمان ولأي درجة تكون المفاهيم الإيمانية موجودة في حياتك اليومية.

علينا أن نفهم أيضًا طبيعة العيش ونمط الحياة  فلا يمكن فصل الصحة النفسية عن مفهومك للدنيا و تعاملك منها، والسبب في وجود وتزايد مشاكل الصحة النفسية مع وجود تلك الرفاهيات والتطورات العلمية التي سهلت حياة الإنسان هو الفهم الخاطئ لمفاهيم الدنيا وتعريفها، مثل مفهومك للنجاح والسعادة وما إلى ذلك، تلك الدنيا المادية وإن كانت تسهل الكثير وتعطي الكثير ولكنها تسلب منك أيضًا صفاتك النفسية مثل الإيمان والعبادات فهي تصرفك عنها، وقد تسلب منك أيضًا الصبر والرضا والتوكل على الله، والقدرة على التحمل، وتعطيك من الدنيا بسهولة كل ما تريد ولكنها تسلب من صفات النفس، ولهذا الدنيا المترفة تضعف النفس وتفسدها .

فمفهوم النجاح لا يُعرَّف بالجاه والمال والوظيفة، نحن إن فهمنا النجاح على هذا النحو إنما يكون فهماً خاطئاً يسبب لنا المشاكل، يقول- تعالى- في سورة الأعراف “والوزن يومئذ الحق فمن ثقُلَتْ موازينُه فأولٰئك هم المفلحون و من خفت موازينُهُ فأولٰئك الذين خسروا أنفسهم” تعريف النجاح والفلاح هنا هو ثُقل الموازين بالأعمال الصالحة فعندما يعرف الإنسان هنا مفهوم النجاح بشكل سليم يدفع نفسه لفعلِ الخيرات والعمل المُثقِل لميزانه مما يحقق له التمكين النفسي السليم، ويبتعد عن الحسد والغيرة في أن يمد عينيه لماديات الآخرين فهو يعرف أن هذا ليس بالنجاح إنما ماديات، والسعادة إنما هي السعادة في تحصيلك في هذه الدنيا وما يكون لهُ أثرٌ ومدىً طويل غير منقطع، فمن الخاطئ تعريف السعادة على انها شيء ملموس وآني، وهلمَّ جرًا بباقي المفاهيم، تصحيحنا لمفاهيم الدنيا وإدراكنا لطبيعة العيش ونمط الحياة يقوي لدنيا البناء النفسي ويعزز صفات النفس .

ومن المهم أن نعرف أن تعامل الإنسان مع نفسه تعاملاً صحيحًا هو نقطة مركزية في التمكين النفسي، أي أن تضبطها وتجعل عقلك هو المُسير لها لا هي المسيرة له، أن تُروضها على حسن الأخلاق والأدب، أن تتعامل مع مشاعرك بشكل سليم و تعلم كيف تديرها وتكبح انفعالاتها الزائدة لتحقق بهذا الحكمة والعقلانية، أن تنمي فيها قوة التحمل والصبر، أن تعرف ما هو مفهوم القوة ومن هو الإنسان القوي في قوله -صلى الله عليه وسلم- “ليس الشديدُ بالصرعة إنما الشديدُ الذي يملكُ نفسه عند الغضب”، فما أهونها على الفهم وما اعسرها عند الفعل، أن تملكَ نفسك أي أن تكونَ أنت المتحكم لا هي، أنت مالكها لا مملوكها، وأن تعرف معاني الرضى و التفاؤل والرجاء وما يضادها من تشاؤم وسخط، وتُتْبِع معرفتك بفعلك ..

وأختم بأنه إن لم يكن تمكين الإنسان النفسي قويًّا متينًا فهيهات أن يُحسن التعامل مع الأزمات إذا وقعت له وألمت به البلايا، وخير ممثلٍ وقدوة لهذا التمكين النفسي القوي هو رسول اللہ -صلى الله عليه وسلم- فهو ما تركَ صغيرةً ولا كبيرةً بتمكين النفوس إلا علمها وفهمها لصحبه ومن يليهم  ليكونوا أهلَ حملِ الرسالة من بعده.

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *