عائدٌ إلى حيفا.. روايةٌ بين وجع الماضي وحُلم الغد

إيمان الحريري


لم تكن “عائد إلى حيفا” سوى غصّة كبيرة، قبضة محكمة على القلب تعتصره من أولى كلماتها حتى آخرها بل وما بعدها بكثير، بأيّام وسنين.

إنّ عائد إلى حيفا بالنسبة لي ولكل قارئ عربي يعي ما يقرأ حق الوعي هي ملحمة، وإن اعتدت على أنّ الملاحم كتب ضخمة عالمية فأدعوك إلى هذه الرواية لتقرأها، إنّها ملحمة خاصة بالعرب.. الذين مهما حاول الغرب تكميم أفواههم تظلّ دومًا أمامهم ملاحم ليقولوها ويكتبوها بل ويرسموها كما فعل الفلسطيني الشهيد غدرًا من إسرائيل ناجي العلي، وبذلك نعلم أن غسان الذي غدوره في السيارة المفخخة لم يكن المستهدف الوحيد الذي شكّل خطرًا على كيانٍ مدعوم دعمًا كليًّا من الغرب، ذلك بأنّ إسرائيل تعي خطر المثقفين والفنانين عليها وتعي ماذا في مقدورهم أن يغرسوا في أبناء تلك الأمّة.

إنّ “عائد إلى حيفا” تجيبنا لماذا كان غسان يُشكّل خطرًا على كيانٍ كامل وهو فردٌ واحد.

وقد قالت رئيسة وزراء إسرائيل وقت اغتيال غسان كلمة مُشابهة “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح. فغسان بقلمه كان يشكل خطرًا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح”.

عن الرواية

يرجع سعيد وزوجته صفية -بطلي غسان، اللذان جسّد بهما فئة كبيرة من الشعب- إلى حيفا بعد عشرين سنة، بكثير من الدّموع والقلق والأفكار التي تعصف بهما، إلى بيتهما الذي غادراه قسرًا كل تلك المدة، ورضيعهما الذي ما عاد رضيعًا وما عاد لهما، والذي تركاه أيضًا قسرًا تحت ضغط القصف الذي انهال عليهم في نيسان ١٩٤٨.

يعودان ليجدا أنّ حيفا تنكرهما كما الشوارع كما بيتهما كما خلدون أو ديف.

ماذا تبقى لهما بعد كل هذا من الوطن؟ ماذا تبقى لهما بعد أن أنكرهما كل هذا؟ 

في خضم الأحداث يكتشف سعيد أنّ ما هذا هو الوطن وأن الوطن هو ألا يحدث هذا كُله، إنّ الوطن هو البندقية، هو خالد الذي أراد أن يحملها رغمًا عن الجميع ليناضل.

تلك الرحلة إلى حيفا بعد أن فُتحت بوابتها -بهدف أن يروا كيف صيّرها اليهود من بعدهم، ذلك الهدف الذي باء بالفشل- لم تكن رحلة لاستعادة الأرض ولا البيت ولا خلدون، فكل هذا يحتاج إلى حربٍ! كانت تلك الرحلة ليكتشف سعيد حاجتهم إلى الحرب هذه، وأنّ الإنسان قضيّة، وأنّه وديف -هذه المرة أقول ديف- يقفان كلٌّ على جانب، وأنّ على خالد أن ينضم مهما حدث للفدائيين.

أتت هذه الرواية في ثمانين صفحة، وكانت على الرغم من حجمها الصغير تفوق المجلدات الضخمة، لأنّ السر في الكلمة والصمت الذي يتبعها، لم يكتب غسان فيها سطرًا واحدًا عبثًا، حيث لا مكان للبهرجات، إنما الحقيقة الخالصة وحسب، وقد مثلا الشخصيات كل واحدة منها شريحة كبيرة من الواقع. وقد ذكرت رضوى عاشور أن شخصیات تلك الروایة “تعبر عن أفكار وقناعات أكثر منها شخصیات أخذت مداها في النمو لكي تخرج إلینا وجودات حیة لها وزنها وقیمتها في الروایة”.

يذكر كنفاني بين تلك الأسطر- بطريقة لا تخلو من ذكاء- معسكرات أوشفيتز التي كانت كابوسًا لليهود آنذاك وقد قتل فيها والد ميريام -أمُّ ديف-، مشيرًا إلى أنّهم يرتكبون ذات المجزرة التي ارتكبت فيهم ويعيدون التاريخ، وبذكاءٍ مرةً أُخرى يذكر أنّ ميريام من بولونيا، مشيرًا بذلك إلى أنهم كلهم لهم أوطان وجنسيات يعودون إليها، أما الفلسطيني وإن غاب عنها عشرين سنة يظلّ منها ولا يظل له ملجأ إلاها.. وهذه الحرب الحالية التي اشتعلت مجددًا في غزة تثبت هذا فقد فرّ الإسرائيليون إلى بلدانهم الأصلية بعدما طالبت الدول “بريطانيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها” بعودة مواطنيها! وظهر زيف دعواهم بأنها أرضهم الموعودة! بينما تشبث الغزاويون بتلك الأرض.

أعد هذه الرواية ردًّا مخرسًا لكل الذين أدعوا أن الفلسطينيين باعوا البلاد وباعوا القضية، ظنوا كما ظنّ ديف أن أبواه تركاه، باعاه، وهربا منه.

كما فتح غسان فيها عيون القراء على ذكرى الماضي ومأساة الحاضر والحرب لأجل المستقبل.

 وشهرة كتبه التي لم تنضب وكثرة قرائها دليلٌ على أنّ إسرائيل لم ولن تنجح باغتيالِ غسّان، فإن كانت قد أودت بجسده فهي لم تُودي بفكره وكلماته فهو الذي قال “الإنسانُ فكرة، والفكرة لا تموت”

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *