الذكاء الاصطناعي وحملات التضليل الحكومية

كريبتو كرانيوم.
ترجمة: آية الحريري.

إن الآراء الواردة أدناه تعبر عن توجهات أصحابها، ولا تتبنى يقظة بالضرورة جميع التوجهات المذكورة في هذا المقال.


حتى يخضع شعبٌ ما، ويمتثلَ لأوامر سادَتِه، يجبُ أن يكون في مرحلةٍ يُصدِّق فيها كل ما يخبره به هؤلاء السادة، وهذا ما تحاول الحكومات المُعاصرة إتقانه، وهي تستعين على ذلك بالتكنولوجيا الحديثة وأدواتها. ومن بين الحِيَل التي قد يُخدَع بها العامَّة لحملِهِم على الأَخذْ ببَعضِ المعتقدات هي أن يجَسِّدَ تلكَ المعتقدات شُخُوصٌ وسلطات يشعُر العامَّة بالراحةِ لوضعِ ثِقَتهم فيها، وأولئكَ المُعْتَمَدين من الحكومة من السياسيين والعلماء والمتدينين والمتحدثين مثل المَدْخَلِيَّة والدُعاة من النصرانية الصهيونية ووسائل الإعلام والصحفيين، ومُؤثِري مواقعِ التواصل كيهود اسرائيل من نجوم هوليوود، وعندما يقِفُ الأَمْرُ عند هذه السلطات المزعومة يُعْرِضُ النّاس عن كون الدليل أحد مطالب معاييرهم للتّبين من صدقِيَّة أي زعم يَزعُمُونه، إنهم ببساطة يأخذونَ كلامهم مأخَذَ الجد، وهو ما يَعُدونه دليلًا كافيًا لقبولِ شيءٍ ما باعتباره حقيقةً مطلقة.

ومن الناس من يميلون إلى وضع ثقتهم الكاملة في أنفسهم، أي الرأي الغالب، والنفس البشرية تميلُ للانجرافِ والتحول بما يتماشى مع التصور العام، والناس لديهم حاجة للتوافق مع المعتقدات الشعبية، حاجة قد تكون أحياناً مُلِحة تَبلغ مداها أنهم ما يعودون يكترثون ولو كانت الأدلة تُعارِض وتُمَحِص تلك المعتقدات تمامًا، وذلك فقط حتى يتسنى لهم البقاء ضمن الحدود المريحة للقبولِ الاجتماعي.

الحملات الدعائية التي تشنها الإمبراطورية الأمريكية واسرائيل عبر الانترنت

أصبح معروفاً قبل وقت قريب أن كافة حكومات العالم باتت تستعمل شبكات واسعة من الحسابات الزائفة و”جيوش البوتات” عبر الانترنت لنشر بعض الروايات وخلق انطباع كاذب بأن أكثر الناس يصدقونها، تُنشر مثل هذه الروايات عبر الانترنت عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي والمنشورات والتغريدات والتعليقات والردود وما إلى ذلك.

مثالٌ على هذا أنه قد قُبض على شركة علاقات عامّة إسرائيلية تسمى “Mind force” تعنى بإدارة حملة كبيرة ضد حماس على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصدرت “SIO” مرصد ستانفورد للانترنت تقريرًا كاملًا يبين أفعال هذه الحملة عبر الانترنت بعد أن أُزيلت من قِبل شركة “Meta” يقول فيه:

“نُشِرت منشورات حول القضايا الفلسطينية والشرق الأوسط والإسلام ما يقارب تسع عشرة صفحة وستٌ وستون ملفًا شخصيًا وستُ مجموعات واثنانِ وأربعين حسابًا على موقع ” انستغرام”، وكان هذا النصيب الأكبر من الإزالة الشاملة، والذي كان نشِطًا منذ نهاية عام 2020 إلى أن عُلِّق في شهر يونيو/حزيران عام 2022، كانت الصفحات إما إخبارية أو ثقافية أو ساخرة، وذَمت هذه الشبكات قيادة حماس وزعمت أن إيران كانت واحدة من آخر مؤيدي الفلسطينيين الأربعة، وبينما استُخدِمت بعضٌ من الألفاظ المعادية لإسرائيل، ركزت الشبكة انتقاداتها على قيادة حماس”.

وزعمت المنشورات المعادية لحماس أن قيادة حماس ليست كفؤًا وأنّ قادتها فاسدون، وأنّها تُعاوِن على البطالة وتعمل ضد مصالح المدنيين في غزة.

وجهت المنشورات الأنظار إلى قضايا كازدياد البطالة في غزة وفقر العناية بالبنى التحتية أو تسليط السلطات لرجال الأمن على المدنيين في حالاتٍ مُعينة.

وارتبط منشور من عام 2022فبراير/شباط بمقال إخباري يناقش حملة على تويتر (إكس)استعملت قول ” لقد اختطفوا غزة” للاعتراض على حكم حماس في غزة.

ولامَ منشور من يونيو/حزيران 2022 قيادة حماس لهدمها منازل الفلسطينيين لغاية مشاريع حكومية.

ركزت هذه العملية الاستخباراتية الإسرائيلية على تضليل وخداع المسلمين ليصدقوا بأن قيادة حماس مرفوضة بين الشعب الفلسطيني، وأنهم الجذر الأساس لكل المعاناة التي يتكبدونها، وأن إسرائيل هي المنفردة بتنجيتهم من أولئك الإرهابيين الشِرار، وكان أملهم من هذا هو تهييئ الأحاسيس المعادية لقيادة حماس الطريق للموقف الإسرائيلي بين المسلمين، لا سيَّما مسلمي الشرق الأوسط.

كما سعت هذه الحسابات لخلق الانطباع بأن إيران هي الحليف الآخر للشعب الفلسطيني، وهو ما قد يعين على ابتعاد مسلمي الشرق الأوسط عن فلسطين، ومما نراه الآن في الحرب الجارية في غزة أن حملات التضليل الإسرائيلية قد بدَّلَت مناوراتها لتصبح ضد إيران، لأن هذا أنفع لتأجيج الطائفية والحض على التَّفرق والخِلاف.

وقد شُهِدت هذه الدعاية المعادية لحماس وإيران في حملة التضليل الأخيرة ضد “يحيى السِّنوار” والتي نفذتها إسرائيل عبر شبكة من الصهاينة المسلمين العرب، والمَدْخَلَيَّة، وحسابات زائفة تزعُم أنها من الشعب الفلسطيني.

وبلغت شركة “Mind force” الإسرائيلية لمدى إضفاء طبقة من الرسائل المعادية على دعايتها لتخلق هالة من الصدق إلى أكاذيبها وخداعِها، ومع قصدهم لفلسطين والمسلمين فقد شنّوا أيضًا حملات دعائية عبر الانترنت بغرض التأثير على الانتخابات في أنجولا ونيجيريا.

وهذا المكر السياسي خفيةً لهو أمرٌ تمكنت فيه إسرائيل منذ نشأتها المُحرمة، كما حظر موقع فيسبوك شركة إسرائيلية أخرى باسم مجموعة أرخميدس لمحاولتها التأثير على السياسة في دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا وأميريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وهي المناطق التي تتدخل فيها الحكومة الإسرائيلية خفيةً لزمنٍ طويل، سواء كان نيابةً عن الولايات المتحدة أو لأغراضها.

أظهر تحقيق جماعي أقامهُ مكتب التحقيقات الفيدرالي وشركة جرافيكا باسم “الصوت الخفي” تقييم خمس سنوات من عمليات التأثير السري المناصرة للغرب، وهو عن عملية تضليل أخرى عبر الانترنت، كانت هذه المرة من فعل المخابرات الأمريكية، وتبَيَّن أنها اشتملت في الأصل على الدعاية ضد روسيا والصين وإيران وطالبان.

لقد استُهدف مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بحملات دعائية تُصَوِر دولتي روسيا والصين على أنهما كيانان معاديان وينذران بالخطر، مبرهنين على هذا بما أتت روسيا من رِجسٍ في أوكرانيا وسوريا، فضلًا عن قمع الصين للمسلمين الأويغور، كحجر الأساس لبناء رواياتهم.

ومع أن الولايات المتحدة ربما أفرطت في مَزاعِمها أحيانًا، إلا أن ما هو يقيني أن روسيا والصين كلتاهما آثمتان بإعاثتهما الفساد وما أسفر عنه من جرائم حرب شنيعة ومُنَفِّرة لا سيَّما ضد المسلمين.

ولكن نفاق شبكة الدعاية التي تقودها الولايات المتحدة يكمن في أنها قدمت أميركا باعتبارها الحل – البلد الذي سينقذ المواطنين المدنيين الأبرياء من طغيان الأنظمة المستبدة.

وقد روجت الأصول التابعة للمجموعة بكثافة لسرديات داعمة للولايات المتحدة على فيسبوك وإنستغرام وتويتر ويوتيوب وتيليجرام. وركزت هذه المنشورات في الأصل على الدعم الأميركي لدول آسيا الوسطى وشعوبها، وتقديم واشنطن كشريك اقتصادي موثوق من شأنه أن يحد من اعتماد المنطقة على روسيا. 

إنّ النفاق المطلق للدولة الأكثر ذنباً في إقامة المشاريع الاستعمارية العالمية والتي أسفرت عن كميات لا حصر لها من الموت والدمار أمر لا لبس فيه. كما وُجِّهَ ذاتُ النوع من الدعاية ضد إيران وحركة طالبان، وكمثال على ذلك، فقد ركزت على الإيرانيين معطيةً صورة سلبية عن تأييد الحكومة الإيرانية لحماس وحزب الله. زعمت المنشورات أن الحكومة الإيرانية أخذت الزاد من الشعب الإيراني لإعطائه لحزب الله. وذكر أحد المنشورات على إنستغرام أن قاسم سليماني – المجرم الراحل – أتى بالفاقة والبؤس لإيران بدعمه لحماس وحزب الله. ووجهت بعض التغريدات الأنظار على أحداث مُخجلة لإيران، كانقطاع التيار الكهربائي الذي تسبب في خسارة فريق الشطرنج الإيراني لبطولة دولية عبر الإنترنت.

كما استهدفت الروايات المعادية لإيران السكان الأفغان، مثل إعادة جثث اللاجئين المتوفين الأفغان بأعضائهم المفقودة.

وفي أواخر عام 2021 وأوائل عام 2022، زعمت رواية أخرى معادية لإيران أن الحرس الثوري الإيراني يقسر اللاجئين الأفغان على الانضمام إلى الميليشيات التي تقاتل في سوريا واليمن وأن أولئك الذين أعرضوا يُرَحَّلون، كما ركزت العديد من الحسابات في مجموعة الشرق الأوسط المنشورات على أفعال الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، التي ارتكتب انتهاكات لحقوق الإنسان مذكرةً أن طهران أخذت الإرهابيين تحت رعايتها.

وكانت الحرب السورية أيضًا شأنًا جليلًا للأخذ به عندما يقف الأمر عند التشهير ضد روسيا.

وقد استنكرت الأصول دعم الحكومة الروسية للرئيس السوري بشار الأسد والغارات الجوية الروسية التي قتلت وأصابت الآلاف من المدنيين في سوريا منذ عام 2015، كما أشارت حسابات فيسبوك وإنستغرام إلى أن روسيا أعاقت تسليم المساعدات الإنسانية للسوريين من خلال عرقلة القرارات في الأمم المتحدة، وروجت لعمل برامج المساعدات الإنسانية والدعم الأمريكية للاجئين السوريين. وكان الموضوع من أكثر الموضوعات التي تمت تغطيتها عبر المجموعة، حيث ذُكِرت كلمة “Сирия” (سوريا) أكثر من ستمائة مرة على تويتر وأكثر من ألفٍ وخمسمائة مرة على فيسبوك.

ومما يجذب الانتباه أن الدعاية التي تستهدف مستخدمي الشرق الأوسط ألَحَّت بالروايات المعادية لإيران، ونعتتهم بأنهم مؤيدون للإرهاب والإبادة الجماعية بشكل كبير.


شاركت الحسابات في مجموعة الشرق الأوسط باستمرار محتوىً يؤيد قوات الأمن العراقية المعترف بها من قبل الولايات المتحدة بينما ذمّت أفعال إيران والميليشيات العراقية المدعومة من طهران، وأكدت هذه الحسابات مرةً تلو أخرى أن الميليشيات العراقية المدعومة من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني كانت موالية لطهران على الحكومة العراقية وكانت تقاتل لإقامة الإمبريالية الإيرانية في الشرق الأوسط، كما اتهمت بعض الروايات الميليشيات المدعومة من إيران بالتسبب في سقوط ضحايا مدنيين بضربات صاروخية على المنطقة الخضراء في بغداد.

ونشرت حسابات في المجموعة مضمونًا يذمُّ قيس الخزعلي، زعيم منظمة عصائب أهل الحق المُسلّحة الشيعية، وقد صنفت الولايات المتحدة عصائب أهل الحق كمنظمة إرهابية أجنبية في يناير/
كانون الثاني 2020بعد اتهام أعضائها بقتل المتظاهرين في الاحتجاجات المعادية للحكومة في العراق عام 2019.

ورمت منشورات أخرى من مجموعة الشرق الأوسط طهران بالهندسة للقحط في البلاد بتعريض إمدادات المياه من الأنهار الحدودية للخطر، وتهريب الأسلحة والوقود عبر العراق إلى المقاتلين الإيرانيين في سوريا، وتأجيج وباء الميثامفيتامين الكريستالي في العراق.

يظهر أن الولايات المتحدة تتخذ خصيصًا الروايات التي تشمل بعض الحقائق، واستعملت آراب الحقيقة هذه لتغليف حملات التضليل الخادعة، إن الغاية الرئيسية من مثل هذه العمليات هو أن تبقي الولايات المتحدة أعدائها متفرقين، وخاصة بين الشرق الأوسط وإيران، وهذا هو السبب بالتحديد وراء رغبتهم في إبقاء الجروح بين السنة والشيعة جائشة، بالتذكير المتواصل للطائفتين بالفظائع التي ارتكبتها حكوماتهم وميليشياتهم ضد بعضهم البعض، أيمكنك تخيل التهديد الذي قد يشكله تحالف روسي صيني إيراني أفغاني شرق أوسطي للإمبراطورية الأمريكية الإسرائيلية؟ ربما لن يكون لهم فرصة ضد قواتهم الموحدة. الحسابات في مجموعة الشرق الأوسط باستمرار محتوىً يؤيد قوات الأمن العراقية المعترف بها من قبل الولايات المتحدة بينما ذمّت أفعال إيران والميليشيات العراقية المدعومة من طهران، وأكدت هذه الحسابات مرةً تلو أخرى أن الميليشيات العراقية المدعومة من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني كانت موالية لطهران على الحكومة العراقية وكانت تقاتل لإقامة الإمبريالية الإيرانية في الشرق الأوسط.

وهذا ما يجعلهم يضمنون بقاء العالم كافة ولا سيَّما المسلمين، معلقين بحالة من الخصام والقتال بين بعضهم بينما تواصل الإمبراطورية الأمريكية – الصهيونية مشاريعها الإمبريالية في العالم. وزيادة على هذا تُعرِّف الإمبراطورية الأمريكية الإسرائيلية نفسها كمنقذ، بل وكبطلٍ مِغوار سينجي العالم من تهديد روسيا والصين وإيران وحماس وحزب الله وطالبان، ومن المُحزِن أنَّ بعض المسلمين السُّذج والبسطاء يميلون للوقوع في شِرْكِ هذه الحملات الصهيونية، عاجزين عن إبصار التهديد العظيم الذي يواجهنا ويتعين علينا أن نجابهه.

المعضلة الإنسانية والحل الشامل

ورغم أن الحكومات في كافة العالم تستعمل مثل هذه الشبكات من الحسابات الزائفة لنشر الدعاية عبر الانترنت فإنها الآن لا تقترب بأي حال من الكفاءة التي يرومون، وذلك أن هذه الحسابات يشغلها أُناسٌ من لحمٍ ودم.

إن هٰؤلاء لبشر، يحتاجون إلى الغذاء والراحة وتجديد طاقاتهم، وقد يصيبهم المرض والاكتئاب والموت، وفي أحوالٍ قليلة قد يُخلق لهم ضميرٌ يدفعهم للانشقاق والتبليغ عن تلك المخالفات، ولا تحبذ الحكومات الصبَّ المتواصل لمواردها في تحفيز هؤلاء البشر للقيام بمهامهم، سواءٌ أكان ذلك من خلال إلقاء المال عليهم أو ابتزازهم.

لكَ أن تتخيل المعوقات الماثلة عند إدارة عملية قبيحة سرًّا تتضمن مئات إن لم يكن آلاف الموظفين من البشر، وكمِّ الروابط الضعيفة التي قد يتعين عليهم القلق بشأنها ومراقبتها باستمرار، وفوق هذا كله هو قدرة كل إنسان على شغل عدد قليل من الحسابات ليس إلّا، مما يعني أن جيشَا من مائة عميل يعملون بكل جهدهم قد يديرون بضع مئاتٍ لا غير من الحسابات، بالنسبة إلى الانترنت فإن هذه القوة البشرية لا تكفي لتغيير معتقد العامَّة بشكلٍ طاغٍ في أي شطر، ولا سيَّما إذا كانت الرواية التي يرومون تشويهها لها حظوة كبيرة لدى المستخدمين، أنظر كمثال إلى الحال الراهن مع الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة.

وعلى النقيض من هذا تُظهر بوتات الذكاء الاصطناعي قدرة وتعهد أكبر في هذه المهام، ورغم قصورها وحقيقة أنها قد تتعطل أو تُختَرق فإن الكمَّ والجودة للدعاية التي ستنشرها نيابة عن الحكومات تفوق قدرات الموظفين البشر بدرجات.


تعي الحكومات أنّ البشر معقدون، فهم ذوو مسؤوليات وحياة، ليس بمقدورهم نشر الدعايات طوال اليوم، بينما على النقيض من ذلك، فإن جيوشَ البوتات هذه مصممةٌ خصيصًا لشن حرب نفسية عبر الانترنت ليلَ نهار؛ أَبْصِر مدى الضرر في أنّ آلاف الروبوتات يديرُ كلٌّ منها مئاتٍ ومئات من الحسابات داخل النطاق الإلكتروني.

ومثل هذه الروبوتات ستهيمن بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت، مما يُقَلص نسبة التفاعل البشري إلى نسبةٍ ضئيلةٍ جدًّا.

الذكاء الاصطناعي ومستقبل الحرب النفسية الإلكترونية القادمة

وهذا ما بدأ يصبح عليه الحال، فوفقًا لتقرير -Imperva Bad Bot- في عام 2024 فإن ما يقرب (49.6%)
من إجمالي حركة الانترنت في عام 2023 كانت من الروبوتات، وستتولى الحكومات في كافة العالم نشر الدعايات عبر الانترنت، وسوف تعتمد جودة وحجم الدعاية على كمّ المال التي تنفقه كل حكومة من الحكومات على تحسين الذكاء الاصطناعي، وبما أن برنامج الذكاء الاصطناعي المُنشأ في الولايات المتحدة والمعرَّف باسم “OpenAI”
أو “ChatGPT” بدأ يصبح في الطليعة، وتريليونات الدولارات التي ستُضَخ في تحسينٍ أكبر للذكاء الاصطناعي، فالراجح أن تكون الإمبراطورية الأمريكية الإسرائيلية الكيان الرائد في العالم إذا وقف الأمر عند جيوش الروبوتات عبر الانترنت.

الحيز الوحيد في هذا الميدان الذي قد يستطيع البشرفيه التغلب على الذكاء الاصطناعي هو خلقهم محتوى بشري مماثل في الحجم والكمّ، فعندما يشغَلُ البشر الحسابات الزائفة تُبين منشوراتهم وردودهم بأنها بشرية، وهذا لأنهم بشر، والراجح أيضًا نجاح هذه في خداع الناس أكثر من البرامج النصية التي أُنشِئت بالذكاء الاصطناعي، غير أن البشر يتفاعلون مع الناس ويتحادثون ويُصادقون ويعادون عبر الانترنت، وهذا يخولهم لموضع الثقة عند من يسعون لخداعهم، والحقُّ أن الذكاء الاصطناعي ليس على هذا القدر، على الأقل ليس بعد.

ومع ذلك، وكما ذكرنا أعلاه، تنفق الحكومات المال الكثير والوقت الطويل وغير ذلك من موارد على تحسين الذكاء الاصطناعي ليس فقط للدعاية عبر الإنترنت ولكن في جميع الجوانب، سواءٌ أكانت مرتبطة بالجيش، أو الرعاية الصحية، أو إقامة القانون، أو القضاء، أو التعليم وما إلى ذلك، إن إنشاء ذكاء اصطناعي لا يمكن تفريقه من حيث التواصل والتآلف الاجتماعي عن البشر هو الغاية الكبرى التالية، وكل مقدِّم في صناعة التكنولوجيا يستبق ليصل قبلًا إلى هذه الغاية.

هناك منتدى فرعي يسمى r/SubSimulatorGPT2، حيث يتم إنشاء كل منشور وتعليق بشكل مصطنع باستخدام نموذج اللغة GPT2لـ OpenAl، ومع أن الردود المحاكية تبدو آلية بعض الشيء إلا أنها مُتقَنة وتكاد تماثل الردود البشرية، هناك بعض الدلائل البيِّنة حتمًا، كالاستعمال الصحيح لقواعد اللغة وعلامات الترقيم، ولكن هذه ما تزال بدايات الذكاء الاصطناعي، فإذا كان بمقدوره التفاعل بهذا القدر في هذا الوقت، فتخيل ما قد يفعله بعد خمس أو عشر سنوات من الآن.

لقد تبدَّلت المقاطع المصورة التي أُنشِئت بالذكاء الاصطناعي بعد أن كانت مشوِّشة إلى جودة متفوقة  ومتقنة  في عامٍ فقط، وشهدت الصور التي أُنشِئت بالذكاء الاصطناعي تحسينات عظيمة في نفس الفترة الزمنية، تخيل مستوى الدعاية على وسائل التواصل الاجتماعي بعد نصف عقد من الآن، من الممكن أن يكون كل ركن من أركان الإنترنت مليئًا بمحتوى أُنشِئ بالذكاء الاصطناعي بدقة 4K، حيث لن يتمكن المستخدمون – بل ولا حتى أفضل أدوات اكتشاف الذكاء الاصطناعي- التمييز بين الحقيقة والوهم.


تصوَّر لو أن إسرائيل تمتلك هذه التكنولوجيا الآن، كيف يمكنها أن تختلق ملايين المقاطع المصوّرة لجنود حماس وهم يغيرون على النساءِ ويجزون رقاب الأطفال الاسرائيلين، لطمر آلاف المقاطع الحقيقية التي تتناقل من غزة والتي تصور قبيحَ ما يصنع جيش الدفاع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وبداهةً ستعلن إسرائيل أن هذه المقاطع الحقيقية هي دعاية من إنتاج الذكاء الاصطناعي، زاعمة أنها من فعل إرهابيين يحاولون شن حملات تضليل ضد إسرائيل و”جيشها الأخلاقي”.

ومن يتعثر من البشر بالدخول إلى هذا النطاق الإلكتروني سيجد نفسه محاطًا دون علمٍ منه بجيوشٍ من البوتات الذكية من حكومات العالم، حيث يتناقشون ويتحادثون مع بعضهم، بعد أن صار الإنترنت ساحة معركة نارية للحرب الدعائية، فيها يكون الجنود روبوتاتٍ ذكية مُسَلّحة بقدرة المحاكاة البشرية في جميع جوانب الإدراك سواء كان ذلك سمعيًا أو بصريًا، إن هذه الروبوتات التي ستتواصل تمامًا مثل البشر العاديين، ستكون أنجع في سلخ ضحاياها عن أنفسهم وتلقينهم النظام العالمي الليبرالي.


و سيأتي الواقع الافتراضي ليكون الوسيط للنطاق الالكتروني، ومع تقدم التكنولوجيا في هذا الجانب ستزداد قدرتها في محاكاة الحقيقة، مما يسمح للمستخدمين البشر بمجاوزة الإدراك السمعي البصري إلى التذوق والشم واللمس، وسرعان ما ستتمكن هذه الروبوتات من الاختلاط بالبشر في مثل هذه المساحات الوهمية بحالٍ مفزع، وسيجد المستخدم الذي ينغمس في الواقع الافتراضي نفسه يتجاوب مع ما قد يتوهمه من شخصيات بشرية حقيقية، وقد يصل به الحال ليكون علاقات صداقة، وقد يتخذُ أخلاءً وأخدانًا يرتبط بهم نفسيًا وحميميًا، ويصدِّق بكلِّ كلمة أتت منهم، ثم ليؤدي به الحال أن يكون حركة مرور آلية مستكرهة ليس إّلا، صُممت لإبقائه ضمن محاكاة مضَّللة وخادعة.

في هذا العالم، حيث ستكتسب أجيال البشر الآتية كل معلوماتها من دعاية الذكاء الاصطناعي، سنرى تبَدّلًا شاملًا في الحقيقة، ففي حين تُدَرب نماذج الذكاء الاصطناعي حاليًا باستخدام المعلومات والمحتوى البشري لجعلها تحاكي البشر بأحسن ما يمكن، سيكون البشر هم من يُدرَّبون ويُعَلّمون على يد الذكاء الاصطناعي، حيث يُشربون في عقولهم الروايات الحكومية من خلال القصف المُتواصل للدعاية الخادعة من كلِّ حدبٍ وصوب، سواء بالأخبار التي يولدها الذكاء الاصطناعي، أو الترفيه، أو التعليم، أو البوتات التي تتجاوب في كل مكان.


وإذا ازداد الناسُ حكمةً، فكما فعلوا في الحياة الحقيقية، ستُنشئ هذه الحكومات جيوشًا جديدة مضادة للروبوتات تعمل كمعارضة خاضعة للسيطرة، بحيث يُضْحي البشر الذين كانوا على شفا النجاة من أباطيلهم أضَّلُ سبيلًا، فأي إنسان يدخل إلى صفِّ روبوتات الموساد هذه سيلفي نفسه في وجه ما سيبدو وكأنه شبكة مُتَّسعة من المستخدمين الخائضين في خُطب ومحادثات هادفة، ولكن عند التَّبَيُن سيدركون أن هذا النظام البيئي “الثنائي” الزائف يدعم في النهاية رأيًا واحدًا لا غير، وهو الرأي الذي تقبله الحكومة.

إن إحدى العلامات التي يَختص بها البشر عن الحيوانات هي قدرتهم على نقل المعرفة من جيل إلى جيل، وبالتالي صنَاعة التاريخ، ومن خلال التاريخ يُدرك البشر ما عليهم فعله وما ليس عليهم فعله، والتعلم من أخطاء الماضي والبناء على معرفتهم السابقة، هذه هي الطريقة التي بها حوفِظَ على الإسلام، والتي تقدمت وتحسَّنت بها العلوم المختلفة سواء كانت فلسفية أو اجتماعية أو سياسية أو علمية، وتمكنت بها المجتمعات من الحفاظ على الثقافة والتقاليد والقيم الأخلاقية.

كل ذلك مُتوعَّد بتدبير الحكومات التكنوقراطية لاستعمال تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وحالَ أن يُخضِع النظام العالمي الليبرالي البشرية ويحاصرها في عالم حيث تنبع كل معلوماتها وأخبارها وتعليمها من الذكاء الاصطناعي وشبكات الروبوتات، وليس من آبائِها أو شيوخِها أو قومِها أو الكتب التي ألَّفها علماء مطلعون يرومون الحفاظ على التاريخ والحقيقة، فإن كل هذه القيم والحقائق الراسخة قد تموت شيئًا فشيئًا.

أليس هذا هو عين ما تريده الدول؟ دول كالولايات المتحدة وإسرائيل، أن يعيدوا كتابة التاريخ، أن يمحو فلسطين من ذاكرة العالم، أن يطمروا الحقيقة، أن يدحضوا جرائمهم الإبادية وفسادِهم بوهم زائف حيث الحقيقة مغمورة في القاع مجهولة وغير ممسوسة؟ وبلا الحقيقة أنّى للعدل والحساب أن يقام؟

يعي المسلمون أنّه ومهما سَعت هذه الحكومات الباطلة لدحض الحقيقة فإن اليوم الذي سيُسألون عن ظلمهم وجورهم للإنسانِ لآتٍ، وإن لم يكن في الحياةِ الدُنيا ففي الآخرة.


إن الآراء الواردة أدناه تعبر عن توجهات أصحابها، ولا تتبنى يقظة بالضرورة جميع التوجهات المذكورة في هذا المقال، كما تشدد يقظة على أن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها الميليشيات الإيرانية في سورية والشرق الأوسط لا ينبغي أن يتم التهوين من شأنها، وإن كان العدو الأمريكي يستخدمها لتأجيج الخلاف الطائفي في المنطقة.

المقال الأصلي: Mass Government Disinformation Campaigns via AI Bot Armies

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *