التقمّص الوجداني: هل ما نُشاهده مُعدٍ؟

هل سبق لك أن وجدت نفسك و أنت تشاهد فيلما ما متعاطفا مع المجرم القاتل؟ أو حزّ في نفسك الوضع الذي آل إليه مصير الشخصية البطلة بالرغم من الانحرافات التي تشوبها؟ أو ربّما وجدت نفسك حبيس صفات دور من أدوار مسلسلك المفضّل فتحاكي سلوكها لعدّة أيام لاحقة ! كيف تُفسّر هذه الظاهرة ؟ و ما الآثار المترتّبة عنها إذا نظرنا بشمولية أكثر؟

إنّ الإعلام بوصفه قوّة موجّهة و قطبا هامّا من أقطاب العولمة التي يشهدها حاضرنا، لا يكاد ينفكّ القائمون عليه عالميًّا و محليًّا يستغلّونه أيّما استغلال لتمرير أجندات فكرية و سياسية تصادم الخصوصيات الثقافية و الدينيّة للمتلقّي المسلم، هذا الأخير الذي يعايش واقعا تشهد فيه القيم الإسلامية انحدارا غير مسبوق و أوضاعا اجتماعية و اقتصادية تدفعه دفعا نحو التعرّض لأي شيء قد ينسيه مرارة واقعه و الاغتراب ذهنيّا للتنفيس و الترويح ، و أيّ شيء! قوائم لا متناهية من الأفلام والمسلسلات و العروض الإعلامية و الفنية و الكوميدية و مئات المضامين المتنوّعة معظمها غربيّ المنشأ يتشربّها المتلقّي المسلم يوميا، على منصات عرض الأفلام ثم على فيسبوك ثم على اليوتوب و هلمّ جرّا من المحتويات البصرية التي تعزّز في معظمها مفاهيم العَلمنة و الاستهلاكية الماديّة و القيم الغربية المناقضة لتلك التي من المفترض أن يحصّن بها المشاهد فكره.

التقمّص الوجداني.. أيُّ مآلات؟

يُعرّف التقمّص الوجداني بأنه القدرة على فهم الحالة الشعورية للأشخاص و الشعور المماثل لما يمرّون به في أوقات السعادة و الفرح و الحزن و الغضب و القدرة على معايشة ذات الظروف تخيليّا أي أنه و – كما يشير الاسم – تقمّص الحالة النفسية و ما يصاحبها من أفكار و أحاسيس و الإحاطة بجوانبها تماما كما يعيشها الطرف الآخر حقيقةً ،و هي حالة مختلفة عن التعاطف الذي يتوقّف عند نقطة الشعور بالشفقة، و يتعبر التقمّص الوجداني سلوكا نفسيا طبيعيا لدى عموم البشر ، و تشير بعض الدراسات¹ إلى إمكانية ارتباطه بما يسمّى الخلايا العصبية المرآة mirror neurons و هي المسؤولة عن المحاكاة العقلية للمشاهد المستقبَلة بصريا ،أي أنّك إن شاهدت مقطعا لشخص يركض مثلا فإن ال mirror neurons تقوم بتنشيط المناطق العصبية المرتبطة بتحريك الأرجل و الركض ، ما علاقة هذا بما نشاهده؟ يعمد القائمون على إنتاج المضامين سواءً منها الترفيهية أو التسويقية على استهداف خاصية التقمّص الوجداني للمستقبِلين، فأنت حين تشاهد عرضا إشهاريا لمنتج ما لا يستهويك المنتج بحدّ ذاته بقدر رغبتك في تقمّص الحالة الشعورية التي يربطها العرض الإشهاري بذلك المنتج خصيصا، فالمنتجات الموجّهة للمرأة تركّز على تصوير الجانب العائلي و العاطفي و السعادة البيتية و الجمالية التي تستثير عاطفة المرأة و تربطها بالحصول على ذلك المنتج حصرا.

لكنّ الخطر الحقيقي لا يكمن في المحتوى الإشهاري – على أهمّيته- بقدر ما يكمن في محتوى الأفلام و المسلسلات التي تستقطب شباب اليوم استقطابا منقطع النظير ، فبالإضافة لقولبة الذوق العام و خلط معايير الجمال و الأخلاق، هي تعمل على غرس مفاهيم جديدة و أخرى مشوّهة للقيم الإسلامية، فتصوّر الانحرافات الجنسية كسلوك طبيعي و مقبول و تُعطى للشواذ أدوار بطولية مرتبطة بقيم الشجاعة و النبل و المرح وتحبّبها لقلوب الجماهير وفق سيناريوهات و حبكة جذّابة يجد فيها المسلم نفسه ليس متقبّلا فقط بل و متعاطفا مع الشخصية المنحرفة المرحة و الكوميدية، و ينقلب في واقعه من حالة الإنكار التام لطبيعة الانحراف إلى التقبّل ثم التعاطف التدريجي و التقمّص الوجداني لمشاهد الانحراف و لاحقا و مع بعض الإضافات من مضامين أخرى تنفّر من الأحكام الإسلامية و تضعها موضع الشرّ و القسوة ، يتطوّر الأمر لشرعنة و مساندة الشذوذ واقعا و باستخدام مختلف الوسائل . و لا يتعلّق الأمر بالشذوذ فحسب، فالمرأة كذلك توضع ضمن قوالب تنزع عنها صفاتها الخالصة و تساويها ضمنيا مع الرجل، نموذج المرأة الناجحة التي لا يمكن أن تحقّق ذاتها دون العمل خارج المنزل الذي يعدّ أمرا ثانويا في السينما الغربية، تتلقّف المسلمة هذه الرسائل و ما شابهها بتركيز مكثّف حتى تتقمّص نفسيا ذلك النموذج ثم ترى لاحقا القالب الإسلامي للمرأة متشدّدا و حاجزا أمام تحقيق أحلامها التي تشكّلت من تجميعات متفرّقة للرسائل الإعلامية الغربية المتعرّضة لها.

اليوتوب و الأطفال.. أي مخاطر؟

يصبح الحديث عن التقمّص الوجداني أكثر خطورة حين يتعلّق الأمر بالأطفال فهم على عكس الفئات الشبّانية لا يملكون الحصانة الفكرية التي تمكّنهم من غربلة المحتوى الذي يتلقّونه، و في ظلّ منافسة المنصات الاتصالية الجديدة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية ،بات من الضروري النظر لهذه الشريحة بعين الرقابة ، فإحصائيات المشاهدات الخاصة بالمحتوى الموجّه للأطفال على موقع يوتيوب تُنبؤ بتراجع كبير لدور المحيط الأسري و لآثار وخيمة على قدرة الأطفال في بناء علاقات اجتماعية و استيعاب مكوّنات بيئتهم و التفاعل معها نظرا لالتصاقهم الدائم مع الشاشة ، تقمّص مظاهر العنف و العدوانية و المشاهد السلوكية السيئة يرتفع عند الأطفال كون وسيلتهم الأولى للتعلّم هي المحاكاة و التقليد و مع موجة الرأسمالية التي خلطت مفاهيم التربية و ربطتها حصرا بالرعاية الماديّة دون السلوكية و الأخلاقية و ما انجرّ عن ذلك من تراجع دور الأم بدرجة أولى ، فإنّ ترك الأطفال لساعات أمام مضامين مشتّتة و فوضوية و يصبّ معظمها في خانة المحتوى الهابط ، قد يخلق جيلا مشوّها فكريّا و أخلاقيا عاجزا عن حمل رسالة الإسلام فما بالك بالدّفاع عنها ؛ و الأمر يتعدّى في بعض الحالات المضمون إلى فعل المشاهدة في حدّ ذاته و هو ما يغفل عنه الأولياء لمجرّد تفعيل خاصية يوتوب الأطفال على الجهاز معتقدين أنّهم يحمون أبناءهم كما يجب .

الإنتاج الإعلامي الإسلامي

في المقابل لا يمكن الحديث عن ضرورة الفطنة أثناء عمليّة المشاهدة و حتمية الفلترة للمحتوى السّمعي البصري و واجب فرض الرقابة الواعية و التعامل بحرص مع المضامين الإعلامية على اختلاف أشكالها، دون الإشارة لأهميّة الإنتاج الإعلامي الإسلامي سواءً تعلّق الأمر بالإنتاج الضخم للأفلام خاصة التاريخية منها لما لها من أهمية في تعزيز الشخصية و الثقافة الإسلامية ،أو الجهود الفردية الهادفة لرفع الذوق العام ورفع صفة الهامشية عن المحتوى ذي المرجعية الإسلامية الأصيلة مع الإشارة لضرورة التنويع من حيث أساليب المعالجة للمواضيع من جهة و من حيث الفئات المستهدفة من جهة أخرى ؛ فتعزيز القيم الحضارية للدين الإسلامي لا تصنعه عفويّة الرفض للمنتج العلماني الغربي ما لم يقترن هذا الرفض بجهد و عمل محترف في خلق البديل .


المصادر والمراجع:

  1. Mirror Neurons in Monkey Premotor Area F5 Show Tuning for Critical Features of Visual Causality Perception

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *