إيمان الحريري
يقول ابن حزم الأندلسي في رسالته “الأخلاق والسير في مداواة النّفوس.
“إذا حققت مدّة الدنيا لم تجدها إلا ( الآن ) الذي هو فصل الزمانين فقط، وأمّا ما مضى وما لم يأتِ فمعدومان، كما لم يكن، فمن أضلُّ ممَّن يبيع باقيًا خالدًا بمدةٍ هي أقل من كرِّ الطَّرف.”
الفلسفة الإسلامية في الزّهد
تنظرُ هذه العِبارة إلى الدّنيا من ناحية الزّهد فيها والتمعن في قِصر أمرها وضآلته، وهي تستند على تصوّر دقيق لطبيعة الزّمن والحياةِ الدُّنيا مُقارنةً بالحياةِ الآخرة.
ولعلّ من أكثر ما احتوته كتب الآدابِ الإسلامية والوعظ هي الزّهد، ولا أمر آخر ينافسه في كثرة طرحه بأساليب مُتغايرة وبديعة، كأنّه إذا صلح عند المؤمن صلحت بقيّة دُنياه.
فقد اعتنى الإسلامُ بالزّهد في هذه الدّنيا وربّى المؤمن على عدمِ الانجرارِ وراءها، ولم يقتصر هذا الأمر فحسب على آياتِ القرآن، إنّما وُجد في الإنجيل والتوراة ما يحضّ أيضًا على هذا.
جاء في العهد القديم “التوراة” سفر الجامعة (الوعظ) – إصحاح 1 : “الكل باطل وقبض الريح.”
هذه العبارة تكررت كثيرًا في سفر الجامعة، وهي تشيرُ إلىّ أن كل ما في الدنيا باطل وزائل، مثل قبض الريح، لا يُمسَك ولا يدوم.
إنجيل متى 6:19-21 “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء… لأنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا.”
وممّا يُشارُ إليه هُنا أنّ كنز الدّنيا لا يُساوي شيئًا أمام كنوزِ الآخرة، وأنّى للفاني أن يرتقي لمستوى الخالد؟ -ولا يأتِ هذا في ذمّ الغِنى، إنّما في اللهثِ وراء الأموال طمعًا فيها ومع نسيانِ الآخرة- وفي هذا أيضًا قال الصّادق الأمين ﷺ لشداد بن أوس: “إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك لسانًا صادقًا، وقلبًا سليمًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب”
وتشعبت الفلسفة الإسلامية في الحديثِ عن الزّهد وربطته في كافّة صنوف العلم ونواحي حياة المُسلم، وقد ذُكِر ونُقل لنا عن سابق المسلمين قصصًا عن الزّهد يكادُ المرءُ يُنكِرُها، بيد أنّها لا تزالُ حاضرة حتّى هذا الحِين وإن قلّت، فبعدما انفتحت أبواب الدّنيا أمامهم وكما لم تنفتح من قبل، وأخذتِ الأرض زخرفها وازيّنت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها، مالوا إليها واطمأنّوا بها، وأمنوا كما يأمنُ المرءُ في عقر دياره بعد طولِ تغرُّب، غير أنّ ثلّة منهم لا يزالون متمسكين بهذا الزّهد وهي لا تخلو من كلّ آونة من الزّمان.
فإن ترك النّصارى أمر كتابهم وركنوا إلى الدّنيا وترك اليهود من قبلهم أمر كتابهم وركنوا كما سيركن من بعدهم، فحريٌّ بالمؤمن وأولى له ثمّ أولى، ألا يتبع سنن الذين من قبله.
نصُّ ابنِ حزم
وفيه يقول أنّك إذا أمعنت النّظر في هذه الآونة التي تحيا بها الحياة وتأملت متدبرًا بتحقيق، لن تجدها إلا هذه اللحظة الحاضرة التي تعيشها ليس إلا، والتي تعدّ فصل الزمانين، أي الفاصل بين الماضي والحاضر، فأمّا هذا الذي مضى -ماضيك- وهذا الذين لم يأتِ بعد -مُستقبلك- فمعدومان، أي لا وجود حقيقي لهما، كأنّهما لم يكونا موجودين أصلاً.
فيحثّك بإظهار قصر الدّنيا وضآلتها، على الزّهد فيها وترك محرماتها الزائلة مثلها.
ثم يأتي السؤال التبكيتي الاستنكاري، وهو بيت الحكمة: “فمن أضلُّ ممن يبيع باقيًا خالدًا بمدةٍ هي أقلُّ من كرِّ الطرف.”
فلا والله، لا يوجد بين النّاس من هو أكثر ضلالاً وغفلة ممّن يضحي بالآخِرة الخالدة ويخسرها لأجل لحظة قصيرة جدًا مثل غمضةِ عينٍ -كرّ الطرف-
نظير من القرآن
يتقاطع هذا المعنى مع قوله تعالى: “وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور” (آل عمران: 185)
وقوله: “كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها” (النازعات: 46)
ومُصداقُ هذا أيضًا آية “كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ”
علّق سيد قطب: إنه أمد قصير ، ساعة من نهار، وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة، وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار.. ثم يلاقون المصير المحتوم، ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم.
وآية: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ .
وقال فيها سيد قطب: وإن الله – سبحانه – ليعلم. ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض، واستقصار أيامهم فيها، وقد باعوا بها حياة الخلود.. وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها. وإنهم ليائسون ضيقو الصدر، لا يعنيهم حسابها وعدتها”.
فلسفة ابن حزم في “الآن”
لعلّ ما أراد ابن حزم إيصاله من عبارته هذه إضافةً إلى الزّهد، هو قطع التعلق بالماضي أو الخوف من المستقبل، والوعي باللحظة الحاضرة واستغلالها، وأنّ هذا الزّمن الممتد من خلفنا وأمامنا ليس موجودًا إلا في ذهننا ووعينا، وأنّ ما نملكه هو اللحظة الرّاهنة.
ففي هذا العقد الطويل الذي هو حياة تنفرط حبّاته بين يديك تتابعًا، اللحظات التي تصبح ماضٍ تتساقط منك على مرأى منك دُون أن تقوى على إرجاعها، فتلتفت إلى الجانب الآخر -المستقبل- وتجده أبعد مما تطوله يداك، مجهولٌ وجدًا وخفيّ مبنيّ على توقعاتٍ مصدرها ذهنك لا تعلم إن كانت ستحالُ واقعًا أم لا.
ويتبقى أمامك حبّة واحدة من العقد، وهي هذا الوقت الآني الذي تعيشه.
وهذا يقودنا إلى شيءٍ واحد. الدنيا كلّها، في حقيقتها، ليست أكثر من لحظة عابرة لا تثبت، لا تستحق أن نضحي من أجلها بالخلود الأبدي.
سبق فلسفي!
سبق ابن حزم بهذه الأفكار التي وردت في رسالته، فلسفات المعاصرون وذوو التنمية البشريّة، في موضوع قيمة اللّحظة والوعي باللحظة الحاضرة (present awareness).
بيد أنّهم عندما يوجهون الإنسان لقطع التعلق بالماضي وقطع الخوف من المستقبل لا يعطونه بديلاً عن هذه الحياة الدّنيا التي ينقطع منها، إنّما جلّ ما يصل إليه منهم أنّ عليه التفلُّت من كل شيء، والتركيز على وقت واحد محدد، وأنّ يفهم أنّ الوقت زائل، ثمّ ماذا بعد؟
وهذا ما يجرّه إلى التساؤل: ما الجدوى من كلّ هذا؟ أيّ معنى وأيّ فائدة؟
وطالما لن يعرف أنّ الدّنيا هي بداية الطّريق وموته ليس بنهايته، فلن يجد الجواب.
بينما الفلسفة الإسلامية في هذا تحرّك الإنسان إلى وجهته وتعطيه بوصلته بل وتسير معه الطّريق كلّه، فالماضي غفر الله ما كان فيه، والآتي توكلَّ على الله فيه بكلّ أيامه، واللحظة الحاضرة -الفانية- يعمل فيها بجدّ للحظة الآخرة -الباقية-
وهو بعمله لهذه الآخرة يُلاحظ أنّه قد حاز وأمسك بزمام الدّنيا التي كان يهابها، بل وقد تهيّأت نفسه وروحه لذلك الخلود الباقي، وهو لا يزال في عملٍ دؤوب حتى يقبضه الله وهو كذلك.
“ما الدنيا إلا حلم، والآخرة يقظة، والموت متوسط بينهما، ونحن في أحلام من رآها حالم.” -ابن حزم.