أنس رشدي
إيماني كاملٌ بأنّ الغاية من عقلِ الإنسان هي أن يستدلَّ به على الإله. وهذا هو بلاؤه واختبارُه، والمرتكزُ الأوحد الذي يتحدَّدُ وَفقه كلُّ شيءٍ له صلةٌ بجوهر حياته، وسعادتِه أو شقائه. فالإيمانُ إذن هو فعلُ الاستدلال بالعقلِ وبالقلب، على ما هو غائبٌ بما هو حاضر، ثمّ التعاطي معه بيقينٍ ثابت. وهو على هذه الصورة فعلٌ مستمرٌ : استمرارَ حياةِ الإنسان، ومتكررٌ : عِدّةَ ما هو كائنٌ من الدلائل، متسعٌ : قدرَ ما يحمله كل امرئٍ من علمٍ وعقل وقلب.
ولا يتطلبُ الأمر نوعًا من التفلسف المعقّد فيعجز عنه بسطاءُ النّاس، بل الأمرُ باليُسرِ الذي ينظرُ فيه الإنسانُ إلى نفسه، فلمّا يجدها تسمعُ وتُبصر : يوقن أنّ مَن منحها سمعًا وبصرًا : يسمعُه ويُبصرُه، بل هو السميعُ البصير : أيحسبُ ألّم يرهُ أحد؟ ألم نجعل له عينين؟ وهو أيضًا ببساطةِ أن ينظرَ في نومه ويقظته : فيستدلَّ بالنوم على معنى الموت، وباليقظةِ على معنى البعث. لتموتُنّ كما تنامون، ولتُبعثنّ كما تستيقظون.
ثمّ إنّه لا بدّ أن يشعرَ ذات ضائقةٍ خانقةٍ أو مرضٍ مُقعِدٍ، إذ يَنفدُ من بين يديه ومن خلفِه كلُّ ما عوَّل عليه من قبل : بالفقر التام والعجز الكامل أمام القدرة الكاملة، فيدركَ وجودَها حينئذٍ ادراكًا كاملًا، متنزِّهًا عن استكباره وعنادِه، ثمّ لا يقصدُ غيرَها برجاءِ زوال الضُرِّ ونزولِ النّعمة : فإذا ركبوا في الفلك دعَوا الله مُخلصين له الدين.
وحين يُفني عمُرَه في إقامةِ دُنياه، فلا يراها تقومُ من ناحيةٍ إلا سقطت من الأخرى، كائنًا ما يبذُله : فإذا جاء المالُ ذهبت الصّحة، وإذا جاءت الصّحةُ ذهب المال، وإذا جاءا معًا ذهبَ العمرُ نفسُه : أدرك أنّ الحُمقَ كلَّهُ أن يتعاطى مع الدنيا كأساسٍ مستقر، يمكنُ له أن يبني من فوقه آمالًا عريضة، أو حتى رفيعة! : إنّ الذين لا يرجون لقاءنا، ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، والذينَ هم عن آياتنا غافلون : أولئك مأواهم النّارُ بما كانوا يكسبون. وهكذا إذا نظرَ إلى النّار علمَ أنّها لم تُخلَق سُدىً : نحنُ جعلناها تذكرةً ومتاعًا للمقوين.
إنّه لو أصاب خللٌ ما خليّةً أو هرمونًا أو إنزيمًا، ولو بسيطًا : لانقلبَ حالُ الإنسان وحياتُه لذلك رأسًا على عقب. إنّ الإنسان لو نظر لرأى أنه لا سلطانَ حقيقيَّ له على نفسه : فَڤيروسٌ حقيرُ الشأن، يكادُ يمكنه الدخولُ في نطاق الكائنات الحيّة، حين يستمكنُ منه : فإنّه يتداعى له جسدُه. وإنّ الدماء التي تجري في عروقه تنشرُ الرَّواء والغذاء لو هدأت قليلًا أو سكنت : لخسرَ لذلك من أثمن ما يملك : ربّما جزءًا من عضلة قلبه فصارَ عليلَ القلب يحسبُ لكلّ حركةٍ حسابًا، وربّما جزءًا من عقله فأصبحَ طريح الفراش لا يستمكنُ من بولٍ ولا غائط، وربّما خسرَ لذلك حياتَه نفسها. وهؤلاء الأعداد الغفيرة – التي تزدادُ كلّ يوم – من مرضى الاكتئاب العظيم، واضطراب القلق العام، والفُصام : لآيةٌ فارقة على أنّه لا سلطان حقيقيّ له على عقله وشعوره أيضًا . ولنجادل بأنّه احتاط لصحته البدنيّة والعقلية بكلّ ما يكونُ من العادات الصحيحةِ والأمصالِ والأدوية، في آخرِ ما بلغ إليه علمُ البشر : فهل يقدرُ على إبقاء حياتِه؟ هاهوَ الإنسانُ – بعد يسير من التأمل يستطيعه كل عقل – لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا – على الحقيقة – ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا. وهو مقهورٌ لقوةٍ عُليا حتى يصلَ ذلك إلى أصغر ذرّة في أصغر خليةٍ فيه.
إنّ الاستدلال إلى الإيمان لبلوغِه ليس غايةَ وجود العقل فقط، بل خَلاصُهُ الحقُّ أيضًا. يضربُ البشر يمنةً ويسرةً بحثًا عن خلاصٍ تطلبُه أرواحُهم منهم بغير رحمة : فيتفلسفون تارةً، ويتأدلجون أخرى، ويسلكونَ كلّ سبيل إلا صراطَ الإيمان، وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون. يُهطِعون ظمأى نحو كلِّ داعٍ إلى سرابٍ بقيعةٍ، يزعمُ لهم – بكلّ التأكيد – أنّه ههنا الماءُ الزلال : حتى إذا جاؤوه لم يجدوه شيئًا، ووجدوا الله هنالك، بعد فوات الأوان، ليوفّيهم حسابَهم، والله سريعُ الحساب. لنتلُ معًا : إنّ في خلق السماوات والأرضِ لآياتٍ لأولي الألباب. الذين يذكرون اللهَ قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض : ربّنا ما خلقتَ هذا باطلًا، سبحانك، فقنا عذابَ النّار.